في ظل السعي لفهم أعمق للعالم من حولنا، انطلاقاً من موقعنا كنسويات في المنطقة، يأتي هذا الكتاب كجزء من رحلة أوسع للإنتاج المعرفي النسوي الذي يأخذ تداخل القوى والأنظمة التي تحكم حياتنا اليومية، وتعرقل نضالاتنا وسعينا نحو العدالة بعين الاعتبار. فالمنظومة الرأسمالية، بتحالفها العميق مع أبوية لا تكتفي بإقصائنا من دوائر القرار والموارد، بل تعمل على تعزيز سياسات تهميش مستمرة تُغذي التفاوتات القائمة، وتُعيق أي تحرك نحو تغيير فعلي في قضايا النساء.
لقد ساهم التاريخ الاستعماري الطويل في منطقتنا في بناء هياكل قمعية مستمرة، تُعيق أي إصلاح جذري، ما أعاق بشكل خاص التقدم فيما يخص وضع النساء وقضاياهنّ، كرَّس تهميشهنّ اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. ولا يمكننا الحديث عن احتمالات التغيير دون بناء أرضيةٍ معرفيةٍ نسويةٍ تفكك هذه المنظومات، وتواجهها من خلال عدسة الاقتصاد النسوي، لما له من تأثير مباشر على السياسات العامة واهتمامات التمويل وتوزيع الموارد والعدالة الاجتماعية.
إن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المفروضة من قِبل المؤسسات الدولية، كالبنك الدولي، لا تُعنى بالعدالة الاجتماعية أو باحتياجات المجتمعات، بل تُرغم الدول على تبني إجراءات تقشفية وهيكلية مثل الخصخصة وتقليص النفقات العامة في قطاعات أساسية كالصحة والتعليم، ما يُضاعف التمييز ضد الفئات الأكثر تهميشاً، وتتحمل النساء، تبعات هذه السياسات، عبر أدوارهن غير مدفوعة الأجر في الرعاية، أو انخراطهنّ في دهاليز الاقتصاد غير المنظم دون أي حماية اجتماعية.
في هذا السياق، تُصبح المعرفة الاقتصادية أداة سياسية تُحتكر من قبل الحكومات والخبراء، ويُمنع الوصول إليها بلغة مبسطة ومفهومة، إذ يُجهَّل الناس عمداً، وتُقصى النساء والفئت الأكثر هشاشة من النقاشات والقرارات الاقتصادية، ما يضخّم الفجوة بين احتياجاتهنّ الحقيقية والقرارات التي تُتّخذ وتطبّق، ويُعزز صورتهن كمستهلكات فقط لا كفاعلات في مجتمعاتهنّ،. حتى أن المبادرات الاقتصادية الموجهة والمصممة لهنّ غالباً ما تقتصر على قروض صغيرة تتجاهل جذور الفقر أو غياب البنية التحتية الداعمة، كما في حالة "الغارمات" في الأردن، التي أدت بالنتيجة إلى تراكم الديون وتدهور الأوضاع القانونية والاجتماعية للنساء والفئات الأكثر هشاشة.
انطلاقاً من هذا الواقع، وضمن استراتيجية "تقاطعات" للإنتاج المعرفي النسوي التشاركي، بدأ العمل على هذا الكُتيّب بهدف تطوير معرفة باللغة العربية حول الاقتصاد النسوي، قريبة من الواقع ومرتبطة بتجارب النساء ومُعزِّزَة للوعي الجماعي حول علاقات القوى والسياسات الاقتصادية، وكان من المخطط إصدار معجم يشرح المصطلحات الاقتصادية فقط، لكن مع تطور النقاشات واتساع الحاجة، قررنا إنتاج هذا الكُتيب الذي يتناول الاقتصاد من منظور نسوي أعمق وأكثر شمولاً.
اعتمدنا في بناء محتوى الكُتيب على جلسات استشارية مع ثلاث مجموعات متنوعة من الخبيرات والناشطات والاقتصاديات والأكاديميات، عملنَ جميعاً في المجال من زوايا مختلفة: من التنمية إلى البحث الأكاديمي إلى النضال الميداني، وأسهمت هذه النقاشات في تحديد الإطار المعرفي والاحتياج الحقيقي لهذا العمل، ليضم في النهاية أربعة فصول كتبتها مختصات نسويات وأكاديميات من المنطقة، وهنّ شريكات أساسيات في هذا المشروع.
هذا الكتاب هو خطوة أولى في عمل تقاطعات و دعوة مفتوحة لإعادة التفكير في اقتصادنا، في عملنا، في نضالاتنا، وفي كيفية بناء تغيير جذري يبدأ من تعميق المعرفة والسعي للتصرف ضمن حراكاتنا المتنوعة للوصول إلى سياسات أكثر عدالة وشمولية وإنصاف.
This Content Isn't Available In English