الرحمة لأرواح النساء اللواتي وصلتنا مقتطفات من قصص الغدر بهن ومقتلهن، واللواتي لم نعرف عنهن بعد، إذ أُخفيت قصصهن قسرًا كما سُلبت أرواحهن.
مع استمرار العنف القائم على النوع الاجتماعي في الأردن، لا تزال النساء يدفعن أثمانًا باهظة في ظل غياب منظومة حماية فعالة قادرة على الوقاية من الجريمة قبل وقوعها. ففي الأشهر الثلاثة الماضية، فقدنا أربع نساء وفتيات، فيما انُقذت فتاة خامسة بعد سقوطها من أعلى نفق عبدون.
في الأغوار الشمالية، أقدم شاب على قتل شقيقته رميًا بالرصاص، ليسلم نفسه وسلاحه إلى الأمن العام بعد تنفيذ الجريمة. وفي المفرق، قتلت شابة وزميلها، دون أن تذكر وسائل الإعلام حتى لحظة كتابة التقرير هوية الجاني/ المشتبه به/م، إذ أشارت إلى أن التحقيقات لا تزال جارية في ملابسات الجريمة. وفي ذات المحافظة، قُتلت فتاة أخرى طعنًا، والمشتبه به هو شقيقها.
أما في عمّان، فسقطت يارا، ذات الخمسة عشر عامًا، من أعلى جبل الكسارات. ورغم أن وسائل الإعلام وصفت الحادثة كـ"انتحار"، فإن شهادات متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، من أبناء الحي، تحدثت عن تاريخ طويل من العنف الأسري الذي تعرضت له يارا، خصوصًا بعد مقتل والدتها على يد والدها قبل أعوام وفراره خارج الأردن. ومنذ تلك الجريمة، انتقلت يارا للعيش مع عائلة والدها، حيث تشير الروايات إلى أنها كانت تتعرض للعنف بشكل مستمر.
تُعيد ظروف وفاة يارا، سواء كانت نتيجة انتحار أم هربًا من العنف، طرح سؤال ملح حول مصير الفتيات والنساء اللواتي يعشن في أسر سبق أن ارتُكبت فيها جرائم قتل بحق نساء. كما تثير الحادثة تساؤلات جدية حول دور مؤسسات الدولة في حماية الأطفال والمراهقين، ولا سيما الأيتام والناجين من التفكك الأسري، في سياقات يكون فيها التاريخ العائلي حافلًا بالعنف المثبت.
في هذا السياق، يشير تقرير "جرائم قتل النساء في فلسطين: بين الثقافة السائدة ومتطلبات التغيير " الصادر عن مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي (2016)، إلى الأثر الاجتماعي العميق لجرائم قتل النساء، خصوصًا على النساء من أسر الضحايا. فإلى جانب الألم النفسي والخسارة، تتعرض هؤلاء النساء لعقاب جماعي تمارسه الأسرة والمجتمع، يشمل العزل الاجتماعي، والوصم، واللوم، والرقابة المشددة من قبل الأسرة والعائلة الممتدة. هذا الوضع يحد من حرية حركة النساء، ويحوّل حياتهن إلى سجن عائلي يفقدن فيه حقوقهن الشخصية، ويُقيد وصولهن إلى فرص التعليم والعمل، بل وحتى حقهن في الزواج واختيار الشريك، نتيجة للوصم المجتمعي الذي يلاحق نساء العائلة.
ولا يقتصر الأثر على القيود الاجتماعية، بل يمتد إلى الشعور العميق بانعدام الأمان، حيث تفقد الناجيات الثقة بمحيطهن. فإن لم يكن الجاني نفسه هو من يعيش معهن أو يتولى رعايتهن، فقد يكون من حرض أو برر أو صمت على الجريمة. هذا المناخ يجعل من النساء داخل أسر الضحايا هدفًا لدوامة متكررة من الخوف والتوجس، ويؤثر بشكل مباشر على علاقاتهن داخل الأسرة والمجتمع.
لفهم هذه الآثار الاجتماعية، لا بد من النظر إلى جرائم قتل النساء بوصفها ليست مجرد حوادث فردية، بل أدوات تُستخدم لضبط وتقويم سلوك النساء داخل المنظومة الأبوية. فعندما تُعنَّف امرأة لأنها لم تنفذ عملًا منزليًا مثلًا، فالعنف لا يُمارس فقط كعقاب لها، بل أيضًا لإجبارها ونساء العائلة الأخريات على الانصياع. هنا يظهر التقويم إما بشكل مباشر من خلال ما تتعرض له المرأة نفسها، أو عبر زرع الخوف في نفوس الأخريات من مصير مشابه إن تجرأن على الرفض أو التمرد على ما يُفرض عليهن.
تحضر جرائم قتل النساء على رأس هرم العنف الممارس ضد النساء، بوصفها جريمة تقويم موجّهة للنساء الأخريات، وجريمة انتقامية من الضحية المباشرة. وهي تضع القتل، بالنسبة لكثير من النساء، كمصير محتمل أو حتى حتمي إذا لم يخضعن بما يكفي للسلطة الذكورية المفروضة عليهن.
بذلك، يمتد الأثر النفسي لجرائم قتل النساء إلى نساء أخريات خارج محيط الضحايا المباشر، لا سيما النساء اللواتي يعشن تحت عنف مستمر أو يواجهن تهديدًا دائمًا بالتعرض له. فمع ازدياد وتيرة أخبار قتل النساء وانتشارها، يتصاعد الخوف لدى هؤلاء النساء من مواجهة مصير مماثل. ووفقًا لمؤسسة كفى اللبنانية، يزداد عدد اتصالات النساء للإبلاغ عن العنف في الأشهر التي تشهد تكرارًا ملحوظًا لجرائم قتل النساء ¹.
كل ما سبق يؤكد أن العنف ضد النساء لا يبدأ بجريمة القتل ولا ينتهي عندها، بل يمتد بوصفه عنفًا يُرتكب بحق المجتمع بأسره، يُفكك نسيجه الاجتماعي، ويقوّض أمان أفراده.
وفي هذا السياق، لا يقتصر الدور المطلوب من مؤسسات الدولة على معاقبة مرتكبي الجرائم عبر المسارات القضائية والأمنية، بل يتعداه إلى ضرورة بناء منظومة حماية شاملة للنساء المعرضات للعنف.
منظومة تضمن لهن حياة كريمة وآمنة، بدلًا من احتجازهن أو التحفّظ عليهن، كما يحدث في معظم الحالات التي تلجئ فيها النساء لجهاز حماية الأسرة او المحافظ، بحجة سهولة التعامل مع "امرأة واحدة مهدَّدة" بدلًا من مواجهة "مجموعة من الأشخاص المهدِّدين لها ".
ويُفترض بهذه المنظومة أن تنطلق من فهم معكوس: بأن من يُهدِّد حياة امرأة واحدة، إنما يُهدِّد حياة جميع النساء في محيطه، ويجعل بيئتهن محكومة بالخوف والتهديد.
من هنا، تبرز الحاجة إلى سياسات حماية لا تكتفي بالتدخل عند وقوع الجريمة، بل تُبادر إلى متابعة الأوضاع الاجتماعية للأسر التي عانت أو لا تزال تعاني من العنف المسلط على النساء فيها، وتقدم تدخلات إصلاحية وقائية، قبل أن تبدأ بالتدخلات العقابية.
بالنسبة للعنف المسلط على الأطفال والمراهقين، فما يزال قانون العقوبات الأردني، في مادته (62)، يجيز "التأديب" الذي يمارسه الوالدان على أولادهم، ما دام لا يسبّب إيذاءً أو ضررًا، وذلك وفق ما يبيحه العرف العام.
غير أن هذه الصياغة الفضفاضة تُشكّل بحد ذاتها ثغرة قانونية خطرة؛ إذ يتيح العُرف العام، ضمنيًا، العديد من أشكال العنف والإيذاء بحق الأطفال تحت ذريعة التأديب، دون وجود تحديد واضح لما يُعد مقبولًا وما يُعتبر تجاوزًا. كما أن القانون، بامتناعه عن تعريف أشكال التأديب الجائزة، يترك الأمر لتقدير من يمارس التأديب نفسه، فيُصبح الفاصل بين التأديب والإيذاء خاضعًا لنوايا المُعنِّف لا لحماية الطفل.
وإذا كان الأذى الجسدي ظاهرًا ويمكن تقديره، فإن الأذى النفسي الناتج عن أشكال التأديب العنيف غالبًا ما يكون غير مرئي، ويصعب توثيقه أو معالجته، رغم عمقه وتأثيره طويل الأمد.
وفي ظل تكرار الجرائم المرتكبة بحق الأطفال، والتي تصل إلى حد القتل أو الدفع إلى الانتحار، يصبح من الضروري تقييد السلطة التأديبية الممنوحة للأهل أو من ينوب عنهم، والتدخل المبكر لحماية الأطفال من العنف. فالتغاضي عن "العنف البسيط" باسم التربية والتأديب، هو ما يُمهد الطريق لجرائم لاحقة، أو يترك وراءه أضرارًا نفسية مزمنة يصعب علاجها لاحقًا.
في ختام هذا التقرير نؤكد على أن استمرار جرائم قتل النساء والفتيات بهذه الوتيرة ودفعهن للانتحار ليس خللًا فرديًا في سلوك الجناة، بل نتيجة مباشرة لبنية قانونية وثقافية تسمح بتكرار الجريمة وتغذّي شروطها. وحدها مقاربة شاملة، تعترف بالعنف كمسألة بنيوية تتقاطع فيها السلطة الأبوية مع الإهمال المؤسسي، قادرة على فتح الطريق نحو حماية فعلية وعدالة حقيقية.
This Content Isn't Available In English