الرحمة لأرواح النساء اللواتي وصلتنا مقتطفات من قصص الغدر بهنّ ومقتلهنّ، وللنساء اللواتي لم تُعرَف قصصهنّ بعد بعدما أُخفيت قسرًا كما سُلبت أرواحهنّ.
شهدت الأشهر الثلاثة الماضية وقوع ثلاث جرائم قتل بحق نساء. فقد قُتلت شابة عشرينية في بلدة الحصن بمحافظة إربد طعنًا على يد شقيقها القاصر. وفي إربد أيضًا، قتل رجل زوجته خنقًا وأخفى جثتها. وردت أنباء إلى الأمن العام تُفيد بغيابها من دون أن يكون قد جرى أي تبليغ رسمي عن اختفائها في حينه. وأثناء التحقيقات وُجِّهت الشبهات نحو الزوج، وبالتحقيق معه اعترف بجريمته وأقرّ أنه قتلها قبل ثلاثة أسابيع وأخفى جثتها، لتتمكن الأجهزة الأمنية من العثور عليها لاحقًا وتحويلها إلى الطب الشرعي. وفي العاصمة عمّان، عُثر على جثة امرأة مدفونة في منطقة نائية داخل حفرة بعمق ثلاثة أمتار، من دون أن يُصرّح الأمن العام بأي تفاصيل حول هويتها أو توقيت مقتلها.
نتأمل في هذه الجرائم ونفكّر في التطبيع مع العنف كأساس لارتكابها، إذ يدل ارتكاب قاصر لجريمة بحق شقيقته على قبولٍ سابقٍ لتعنيفه لها؛ فجرائم القتل داخل الأسرة لا تحدث فجأة، بل تأتي كامتدادٍ لعنفٍ سابق. أما إخفاء جثث النساء، وهو أمر متكرّر، فيدلّ على تطبيع اختفاء النساء من المجتمعات المحيطة بهنّ. تختفي النساء والفتيات لأنهنّ حبيسات المنازل؛ يمكن ببساطة أن تختفي فتاة من مدرستها، أو شابة من جامعتها، أو امرأة من عملها. يضمن المجتمع لأسرتها ألّا يُكثر السؤال، وأن تُنسى بعد فترة، لأن زميلاتها وصديقاتها سيخفن أن يعرّضها سؤالهنّ لعنفٍ مضاعف، ولأن مديرة المدرسة ستخاف التبليغ عن تسرّب طالبة حتى لا يطالها عنف الأهل، ولأن بإمكان رجال عائلتها أن يطلبوا من رجال عائلةٍ أخرى أن يجبروا النساء على الصمت بالعنف، وألّا يتسبّبن بـ«مشاكل بين العائلات» من أجل امرأةٍ اختفت. ولأن «البيوت أسرار»، و«بنتهم ومن حقّهم يربّوها»، و«زوجته ومن حقّه يقعدها بالبيت»، ولأنها «أبصر شو عاملة وحقّهم يحموا شرفهم»، ولأنّه «ممكن زوجوها» أو «قاعدة بالبيت تخدم شخصًا مريضًا أو كبيرًا بالسن»، ليصبح بذلك اختفاء النساء من الفضاء العام أمرًا طبيعيًا لا يستحق السؤال، أو يمكن تفسيره وتبريره ببساطة، لأن وجود النساء في الفضاء العام هو الاستثناء، مقابل حصرهنّ في الفضاء الخاص وتحويل العنف ضدهنّ إلى قضايا خاصة ومعزولة، ما يقدّم خدمة إخفاء الجريمة للقاتل على طبقٍ من ذهب.
لا يعكس هذا بنيةً اجتماعيةً تُطبّع العنف فحسب، بل تُبنى ويُحافَظ عليها بالعنف أيضًا. بنيةٌ أساسها حصر النساء والفتيات وعزلهنّ، واعتبارهنّ جزءًا من ملكية العائلة التي يحقّ لها إخفاؤهنّ وتزويجهنّ واستغلال عملهنّ غير المدفوع بالشكل الذي تراه مناسبًا، ودون مساءلة أو محاسبة. كما يعكس غيابَ دور مؤسسات الدولة في التصدّي لهذا الشكل البنيوي من العنف، بل وتطبيعها هي الأخرى معه، وربما استفادتها من استمراره، فهي لا تقدّم حمايةً للنساء اللواتي يبلّغن أو يرفعن الصوت في الحديث عن العنف الواقع على نساءٍ أخريات. وعندما تتدخل للاستجابة لتبليغ امرأة عن عنفٍ أو تهديدٍ واقعٍ عليها، تعيد ممارسة حبس النساء بحجة حمايتهنّ، كما تعتبر غياب النساء عن المنزل سببًا لملاحقتهنّ منذ الساعة الأولى للتبليغ عن الغياب، ما يعكس بدوره شكل علاقة مؤسسات الدولة مع النساء باعتبارهنّ أيضًا ملكيةً للعائلة، لا يحقّ لهنّ الحركة إلا بإذنها، الأمر الذي يستديم قدرة المجرمين على ارتكاب الجريمة وإخفائها.
لا يقتصر إخفاء الجريمة على هذه الأشكال فقط، بل يمتد إلى عدم أخذ تاريخ العنف بعين الاعتبار عند وقوع الجريمة، وتجاهل الأثر النفسي طويل الأمد للعنف. يظهر ذلك جليًا في قضية الفنانة المصرية آية عادل، التي توفيت إثر سقوطها من الطابق السابع لمسكنها في عمّان بعد عنفٍ وتهديدٍ مستمرَّين من زوجها، الذي كانت توشك على الانفصال عنه والعودة إلى مصر في فبراير/شباط الماضي. وفي سبتمبر/أيلول الماضي صدر حكم المحكمة بتبرئة زوجها من تهمة الدفع إلى الانتحار، لعدم وجود أدلة كافية تشير إلى دفعه لها مباشرةً للانتحار.
هذا الحكم يثير أسئلة جدّية حول كيفية نظر القانون والمحاكم إلى جريمة الدفع إلى الانتحار، وحول ضيق التعريفات القانونية التي لا تربط بين العنف النفسي والجسدي والانتحار كنتيجةٍ له. تقرير الطب الشرعي، إلى جانب شهادات أسرة آية وجيرانها، يثبت بشكلٍ لا مجال فيه للشك أنها تعرّضت لعنفٍ مستمر، بما في ذلك قبيل سقوطها من نافذة منزلها. حتى لو سلّمنا بأن قرار الانتحار كان ذاتيًا، لماذا لا تأخذ المحكمة بعين الاعتبار أثر هذا العنف المتراكم على حالتها النفسية؟ لماذا لا يُعتبر العنف والتعذيب أحد أدوات الدفع إلى الانتحار؟
الأخطر أن المحكمة تجاهلت تاريخ العنف الطويل الذي تعرّضت له آية، برفضها قبول الأدلة التي قدّمتها العائلة حول هذا العنف، ورفضها كذلك الاستماع إلى شهادات الجيران كما صرّحت والدتها. تصريحات والدتها تكشف أيضًا خللًا خطيرًا في سير التحقيق: فبعد الحادثة لم يُغلق منزل آية (مسرح الجريمة)، بل سُمح لعائلة الزوج باستخدامه، ما أتاح احتمال العبث بالأدلة أو إخفائها.
هذا التعامل الأولي مع القضية على أنها "انتحار" بحت، مع إغفال الشبهة الجنائية، يضع علامات استفهام كبيرة على نزاهة التحقيق وعدالته. حكم البراءة الذي صدر بحق زوج الفنانة آية عادل — إذ صدر بحقه حكم سنة واحدة بالإيذاء البسيط، وتمت تبرئته من تهمة الدفع إلى الانتحار — يدفعنا للتساؤل عن كمّ جرائم قتل النساء التي تُزيَّف لتبدو انتحارًا.
في ختام هذا التقرير نؤكد على أن استمرار جرائم قتل النساء والفتيات بهذه الوتيرة ودفعهن للانتحار ليس خللًا فرديًا في سلوك الجناة، بل نتيجة مباشرة لبنية قانونية وثقافية تسمح بتكرار الجريمة وتغذّي شروطها. وحدها مقاربة شاملة، تعترف بالعنف كمسألة بنيوية تتقاطع فيها السلطة الأبوية مع الإهمال المؤسسي، قادرة على فتح الطريق نحو حماية فعلية وعدالة حقيقية.
This Content Isn't Available In English