يمتدّ الفقد في حياتنا إلى أعوامٍ طويلة لم نعشها وربما لا ندركها، منها ما رواه من كسروا الصمت من أهالينا وجدّاتنا وأجدادنا، ومنها ما ظلّ بعيداً بلا رواية.
ورغم هذا الامتداد، لا يمكن لأحدٍ منا أن ينكر أننا عشنا عامين مكثّفين من الفقد، في هذه المقتلة التي صنعها الاحتلال. نقف اليوم عند هذه الكثافة التي حرمتنا حتى من حقّ الرثاء، وجعلت كثيراً مما فقدناه يبدو هامشياً أمام شلال الدم المستمر.
نقف هنا لنحاول أن نستعيد جزءاً من إنسانيتنا عبر الرثاء، الفردي والجماعي؛ رثاء كل ما يمكن أن يُرثى — الكبير والعادي، المادي واللامرئي. رثاء الأجساد والمباني والهواء والثمار والطعام، رثاء الأفكار والمشاعر والحواس، رثاء المسارات والأحلام. رثاء لكل ما سُخّف ووُضع على الهامش لأن هناك جرحاً أكبر، لا لننكر الجرح الأكبر، بل لأن حتى ما صار جرحاً صغيراً لم يكن يجب أن يحدث، وهو يستحق الرثاء.
نرثي لنذكّر أنفسنا بالحياة التي كنا وما زلنا نستحق أن نعيشها. لنرفض أثر الاستعمار على تفاصيل حياتنا ومفاصلها، ولنذكّر أنفسنا أننا، أينما كنّا — داخل المناطق التي ارتكب الاحتلال فيها مجازره أو خارجها — جزءٌ من المقهورين والمقهورات، نحمل الفقد بأشكاله المتعددة.
نضع بين أيديكن مجموعة من المساهمات التي ارسلتموها لنا استجابة لدعوتنا لكمن في السابع من أكتوبر 2025 لكتابة الفقد واستعاد الحياة
غزة ترياق الحزن والفقد
كنتُ أحبو نحو الحياة تحت سقف الموت الكافر،
هذا الموت الذي لم يكن عابرًا في طريق العمر ومسار حياتي،
فقد كان يغزو كلّ تفاصيل الحياة فيَّ،
يُهشِّمها ويمزِّقها إربًا إربًا.
كنتُ في قيامة الإبادة عامين، وما زلتُ.
تشقَّقتْ في الروح ندوبٌ نزفتْ قهرًا من الفقد وتوالي مآسيه،
امتحنني الخوف وتخدَّر قلبي تحت وطأته.
لقد بدأتْ فصول الفقد تفتح رياح جهنّمها نحوي في تلك الإبادة، حينما اغتالتْ أبي عنوة.
لم تكن الإبادة تقذف الفقد نحوي وتغتالني من خلاله فحسب،
بل أيضًا كانت دوماً تُصوِّب قذائف موتها المتراشقة نحونا، والتي لم تتوقّف لأجزاءٍ من الثانية، تُصوِّب قتلها علنًا نحونا؛
لتنزعنا منّا ومن كلّ شيءٍ كنّا فيه، ونسمّيه وطنًا.
بدأ الفقد بأبي، ومرَّغتني الإبادة تحت أنيابها تطحن قلبي تحت رحى المقتلة المصوَّبة نحونا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023،
وانتزعته من بيننا بشراسةٍ، ليس كمن يفقد الإنسان الطبيعيُّ من يحبّ تحت ظروفٍ طبيعية ويتلقّى الخبر بـ«كلّ من عليها فانٍ»،
أو بالأحرى بطريقةٍ تليق بمن نفقدهم من الأحباب.
لم أكن أعلم أنّ أبي سيكفّنه الموت في رزنامة الإبادة المسعورة.
فقدتُ أبي بعد أربعة أشهرٍ وثلاثة أيامٍ من قيامة الإبادة، ولم أودّعه كما يليق به.
فقدته تحت لوعة التعذيب الذي رأيتُه بأمّ عيني، ولم أحرّره من معقل التعذيب.
عرَّوه وقيَّدوه، ثم استجوبوه، وهو لم يحمل من ذاكرة أعوامه السبعِ وسبعين أيّ تهمةٍ إلّا أنّه وُلِد وكَبر في غزّة.
تُهمته أنّه من غزّة، وبسببها أزهقوا روحه أمامنا عنوةً بضربٍ مبرّح.
رافقني هذا الوجع في صراخه الذي لن ينطفئ فيَّ ما حييتُ.
تشوّهت ذاكرتي، وبقيتُ أنتحب صامتةً بحزنٍ قاتم.
لم يكن هناك متّسعٌ للحزن الواسع، ولا للبكاء بصوتٍ حيّ، ولا للاحتضان حتى.
في الإبادة لا وقت لتتفقد ذاتك، ولا حزنك، ولا حنينك، ولا شوقك.
عليك أن تُخرسهم بما تبقّى لك من قوّةٍ لكي تنجو،
فالطريق نحو النجاة تحت سماء الإبادة مكلف،
ولا يُعطيك رفاهية الرثاء أو العزاء.
أجل، أصبح أن تتفقد ذاتك تحت نصل الموت الكافر في لهيب الإبادة رفاهية.
ببساطةٍ لا وقت لكلّ شيءٍ إلّا أن تحاول أن تبقى على قيد الحياة وأنت تركض بأقصى سرعتك من بنادقهم المصوَّبة نحوك.
فمنذ أن شرعنوا الحرب علينا وبدأت نكبة الإبادة،
كنتُ وعائلتي ننزح من مكانٍ إلى آخر نحاول النجاة،
وأبي فقدتُه في إحدى محاولات النجاة في النزوح حينما فشلنا وتحاصرنا واقتادونا.
وفي كلّ نزوحٍ كان الحزن يكبر في القلب دون أن يتلاشى، والفقد يبتلعني،
وأنا لا أملك سوى الأنين والتذكّر كيف رحل أبي أمام عيني ولم أنقذه.
كنتُ أعتقد حينها أنّ فقده هو آخر محطّات انكساري،
وأنّه لن يقوى حزنٌ آخر على فتح دروبٍ أخرى في قلبي،
كأنّه مأتمي الأول والأخير،
ولن يعزّيني حزنٌ آخر من بعده، لأنّ أب القلب قد خطفته الإبادة.
لكن مع مرور الأيام امتحنني فقدٌ آخر،
وسقطت قاعدة الحزن الأول والأخير،
وجثوتُ راكعةً لحزنٍ آخر،
حينما غدا البيتُ ركامًا، فلم يَسلَم هو الآخر من رحى المقتلة.
البيتُ الذي كنتُ أظنّ أنّني سأجتمع بذكريات والدي فيه طالما في العمر حياة،
سأظلّ أُحصّنه من الفراق بصورته، وبما تبقّى منه، إن لم يكن كلّه، رغم غياب جسده عنه،
فالروح تنام في موطنها دومًا، ولا تُودّع من افترقتَ عنهم جسدًا.
فكيف تسقط قلعةُ أبي من بعده؟!
كيف أُداوي فقده في بيته وبيتنا الذي بناه لنا لنكون عائلةً متكاملة؟
حطّمته الإبادة وأخذت معها كلَّ الدفء، صورنا، هندامنا، غرفنا، مطبخنا، حمّامنا، مضيفتنا، ذكرياتنا.
كلّ ذلك بقي تحت الركام يُناجي أن ننقذه مثلنا تمامًا.
لم تكن تلك التفاصيل ولا الأماكن وحدها هي ما دمّرته الإبادة وجعلتها ركامًا،
بل أرواحنا معها غدت ركامًا هي الأخرى.
بكيتُ دهرًا على هذين الفقدين، وظننتُ أنّ فقدًا آخر لن يمتحنني،
فإذا غاب عمودُ البيت وبيته معه، فلمن سأفتح عزاء الفقد مرّةً أخرى؟
على ماذا سأُجدّد بيعة الحزن والتيه في قتامة مشهده وألمه؟
فهما الأحبّ والأقرب إلى قلبي، أبي والبيت، ومن بعدهما يهون كلّ فقدٍ وألمٍ وحزنٍ وتيهٍ حتى.
لكن يبدو أنّ لفصول الفقد رأيًا آخر.
ففي أيلول/سبتمبر 2025، والإبادة تقترب من عامها الثاني،
اغتالني الفقد الأكبر، وأظنّه الأكبر حقًّا، حينما أعلنوا أنّ علينا مغادرة المدينة "غزّة" والاتجاه جنوب القطاع.
هنا وقفتُ أُغلق كلّ فصول حزني الأول والثاني والثالث والرابع...
ووجدتُهم أمام فقد المدينة يمكن لهم أن يتعافوا،
لكن فقد المدينة مثل الثقب الأسود،
سيبتلعك فيه إلى الأبد، ولن تنجو من فقده ما حييت.
المدينة التي أحيتني وأماتتني، لكنّها لم تتخلَّ يومًا عن نفخ الروح فيَّ.
المدينة التي عنقاؤها رمزها، تُحيي ولا تُميت،
ومن رمادها تنفخ الروح للحياة.
دفعتني من الركام إلى البناء، حينما هزمتني الإبادة أفسحت لي أن أرى الحياة فيها.
رغم كلّ متاريس الموت المصوَّبة نحونا سويًّا، أنا وهي وكلّنا،
كانت دومًا تجعلني أجد ألف سببٍ تحت سمائها لأبقى فيها، لكي لا أودّعها.
كانت دومًا، وهي النازفة، تمنحني الحبّ والدفء.
كلّ القطاع مدن قلبي، لكن غزّة مدينته النابضة، وبفقدها لا قيمة للحياة.
هنا التضادّ أعلن معركته معي.
كيف لمن يرى الموت كلَّه في حضن موطنه ومدينته،
من عاش فيها الفقد، فقدَ أغلى ما يملك من أحبابه وذكرياته وحتى مستقبله،
من عاش فيها النزوح والخوف والقهر واستمرارية جهنّم الموت،
أن يظلّ يُناجيها أن تُبقيه فيها؟!
لكن لم تكن مدينتي من أطلقت ذلك الموت نحوي،
فلماذا أتخلّى عنها؟
لماذا على الفقد هنا أن يتملّكني، أن يجعلني أفتح فصلًا جديدًا معه، أغرق في آثامه مرّةً تلو أخرى؟
هنا أعلنتُ أنّ لا قيمة للنجاة إذا فقدتُ غزّة،
وبقيتُ فيها معلنةً أنّ النجاة لا تكون إلّا فيها،
وأنّ رحى المقتلة لا يمكن أن تفوز على من أدمنها.
سيظلّ هو ببقائه عنقاؤها، وستظلّ هي تُنجيه من الموت الآثم.
وسينجو هو، وستسقط ترسانة الإبادة.
ستُداوي المدينة فقدي وأوجاعي فيها، هي الداء والدواء،
لكن ترياقها خيرٌ من فراقها.
وإلى هنا بقيتُ فيها لكي أُداوي كلّ مآتم أحزاني فيها،
وحدها من تُتقن عزائي ورثائي.
وحينما لاح بصيصُ أملٍ بوقف المقتلة ورحى موتها،
وأنّ هناك مساعيَ حقيقيةً تفاوضيّة تنهي معها فصول الموت الجاحد،
أعلنتُ حينها، وأنا فيها، أنّ اليوم الذي لم أتخلَّ عنها ولم أغادرها نزوحًا نحو الجنوب
تحت أوامر الاحتلال التي أجبرت كلَّ من في المدينة أن يغادرها مكرهًا وبالقوّة،
قد كان اليوم الذي عدتُ فيه للحياة مرّةً أخرى، كأنّني وُلدتُ للتوّ.
فهل كان كلّ الفقد السابق وَهمًا؟ أم أنّ المدينة ترياق الحزن والفقد؟
ببساطةٍ أقلّ من تعقيد اللغة:
في حضنِ غزّة وحدها، للروح عزاؤها، وللحياة معنى البقاء.
والسلام.
نورهان أسعد - غزة، فلسطين المحتلة
في قماش الخيمة الممزَّق صورًا واضحةً لوجوههم
هذا المساء... أُطالع في قماش الخيمة الممزَّق صورًا واضحةً لوجوههم.
الغيومُ معي، تَرثي أهلي الشهداء، والسماءُ بنجومها الكثيرة، والقمرُ المستدير...
وأتذكّر بيتَنا، بكلِّ سذاجة.
لم يَبقَ من البيت سوى ظلِّه المكسور على الجدار، ومن العائلة سوى أسمائهم التي أستدعيها كمن يقرأ تعويذةَ البقاء.
رحلوا جميعًا في جمعةٍ واحدة، بضغطةِ زرٍّ مباغتة.
لم أودّعهم، كنتُ وحيدًا نازحًا في الجنوب، وهم في الشمال. لقد اعتقلني الجيش من مستشفى الشفاء بينما كنتُ على رأس عملي، وأجبروني على النزوح وحدي إلى الجنوب، فيما بقي قلبي هناك، في الشمال.
وحينما هاجروا، أخذوا قلبي معهم، فلم أودّعهم، ولم ألمسْ برودةَ أيديهم، ولم أجدْ لهم أثرًا سوى الرماد.
أمّي كانت آخرَ الأصواتِ التي تسرّبت إليّ، تبكي خالتي بصوتٍ متعبٍ من الفقد، ولم تكن تدري أنَّ الجدار خلفها كان يتنصّت على اللحظة الأخيرة.
أبي، الذي كان يوقظنا على صلاة الفجر، صار هو الفجرَ نفسه؛ يجيء من مكانٍ لا أراه، فيضيء قلبي بدل السماء.
إخوتي، أولئك الذين كانت ضحكاتُهم تشقّ ليلَ البيت، ما زال صداهم يسكن صدري، أضع رأسي عليه كلَّ مساءٍ كمن يضع رأسه على صدرِ الذاكرة.
لم أعد أملك ما يمكن أن يُرثى، فكلُّ ما فقدتُه صار أكبرَ من الرثاءِ نفسه.
الكرسيُّ الذي جلست عليه أمّي وهي تعجن الخبز صار طقسًا من القداسة، ورائحةُ القهوة التي تبخّرت في الصباح الأخير صارت صلاةً أتنفّسها.
كلُّ شيءٍ من حولي يتحوّل إلى أثر، إلى لغةٍ لا تُقال إلّا همسًا.
في الحرب، الفقدُ لا يأتي وحيدًا، بل يأتي كتاريخٍ كاملٍ يُمحى بضغطةِ صاروخ.
وأنا، الناجي الوحيد من بيتي، أكتب لأحتفظ بآخر ما تبقّى منّي: اللغة.
أكتب كي لا يبتلعهم الغياب، كي أُثبت أنَّهم كانوا هنا، وأنَّ ضوءَهم لم يكن وَهمًا.
ربّما لم أستطع أن أُنقذهم، لكنّي أستطيع أن أخلّدهم في الكلمات، أن أجعلهم يمشون بين السطور كما كانوا يمشون في الحياة.
ففي غزّة، لا يموت الناس مرّةً واحدة؛ يموتون حين يُنسَون.
وأنا أكتب كي لا يحدث ذلك... أكتب لأنَّ الحنين، وحدَه، صار شكلًا آخر من البقاء.
عماد، لا شيء، سوى أنّه يرثي أهلَه الذين ارتقَوا جميعًا في مجزرةٍ أليمة.
عماد منذر محمد أبو نعمة - مدينة غزة، داخل خيمة في مخيم نزوح.
نرثي اللغة
أنا بطبيعتي أربط جميع مشاعري بالأدب، فهو منفذي وطريقتي في فهم العالم، إذ أرى من خلاله أن ما أشعر به ليس شعورًا فرديًّا، فهناك كثيرون يختبرون الأحاسيس ذاتها التي تعتريني. وحين أفكر في الرثاء، تتبادر إلى ذهني قصيدة أبي البقاء الرندي: «لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسانُ، هي الأمور كما شاهدتها دُوَلٌ **مَن سرَّه زمنٌ ساءته أزمانُ» أو قصيدة أحمد مطر المؤلمة «ما أصعب الكلام».
ومع ذلك، للمرة الأولى في حياتي، لا يسعفني الأدب هذه المرة في استيعاب حجم الحزن والدمار في غزة. لا أظن أن لأحدٍ منَّا القدرة على الإحاطة بما يجري هناك، غير أنني مع ذلك أرثي شبّان غزة ونساءها وأطفالها، ونباتاتها وحيواناتها، وكل ما يمشي على أرضها. أرثي بحرها وسمكها ورملها، وأرثي آمال سكانها وطموحاتهم وحياتهم.
ربما لا يملك الأدب ما يوازي هذا الفقد، وربما على الشعر أن يصمت قليلًا أمام وجعٍ كهذا. لكن في العجز ذاته نوعٌ من الرثاء، إذ نرثي اللغة لأنها لم تسعْ هذا الوجع العظيم.
أرثيهم، نعم، ولكني أقسم أن لا أنسى، وأن أحمل غزة في لغتي كما يحملها البحر في موجه.
دانا - عمان
بعد أيامٍ تحلّ الأربعينية يا صديقي.
بعد أيامٍ تحلّ الأربعينية يا صديقي... مرّ أكثر من شهرٍ على وفاتك. حزِنّا كثيرًا وبكينا... بكينا لأول مرة، انهار بعضُنا وفقد شغفه بالحياة، وآخرون لا يزالون في حالة صدمة. الحقيقة أنّنا حتى الآن غير مصدّقين. أسير في الشوارع فتخطر على بالي، فأهزّ رأسي يمينًا ويسارًا رافضًا، غير مقتنعٍ برحيلك، ثم أتذكّر الناس حولي فأتمالك... وعلى هذه الحال نعيش!
أتعرف يا صديقي أنّي، لكي أُصبّر نفسي، امتدحتُ الموتَ اللعين؟ قلتُ إنّه «عادل... عادل للغاية، يريح الأخيار من شرّ الدنيا»! كلّ كلام الصبر كاذبٌ وغير مجدٍ، وحدهم والداك، ومن بعدهما المقرّبون، يشعرون بمدى الألم والكسرة والحسرة.
حتى الآن لا أصدق، وأردّد في نفسي: «كيف؟» كلّ الأشياء تذكّرني بك، أغلب المواقف والأماكن. تحضرني دائمًا طريقة كلامك ومشيك وملابسك وتعاملك مع الآخرين؛ عناقك المميّز للمحبّين، وألفاظك النابية والبريئة للمختلفين.
أبلغك يا صديقي أنّ جلسات الأصدقاء لم تنقطع، لكنها ناقصة. حلقتنا غير مكتملة، ولن تكتمل بعد فقدانك وغيابك. أتعرف يا صديقي أنّنا في آخر مرة حاولنا تجنّب الحديث عنك؟ أردنا أن نتجاوز سيرتك وألّا نزيح الرماد عن جمر الحزن، فلم نستطع، لم نتمالك. لم يعد لدينا ما نقوله، تذكّرناك بكلمات بسيطة، وانتهينا بسرعة... مرّت علينا سحابة صمت، والجميع يحاول أن يبدو أقوى من الآخر، لكن الصمت يفضح الحزن.
كلّنا يا صديقي نستنكر حياتنا. حتى أنا ألوم نفسي أحيانًا وأسألها: «ألا تشعرين بالخيانة؟» أعيش بينما أنت تحت التراب، فأجدك أمامي، كما جئتني في أول ليلة بعد الرحيل، تخبرني أن أواصل الحياة مردّدًا: «ما تكبّروش الموضوع». ننجح في الحياة أحيانًا ونفشل أخرى، هكذا — أعتقد — حالُ مقرّبيك!
حاولنا يا عزيزي أن نخفّف عن أمّك وأبيك، ولم ننجح. لا يزالان في حالة ذهولٍ وانهيارٍ وضعف. يمثّل والدك بأنّه رجلٌ مقاوم، لكنه أنقاض إنسان، أمّا والدتك فالصبرُ لها ودعاءُ المحبّين. أمّك وأبوك وثُلّة من الأصدقاء — قد لا أكون واحدًا منهم — فقدوا الحياة، ولن يستردّوها يا صديقي مهما مرّت الأيام.
أخبرك يا صديقي أنّ ملابسك التي كانت بحوزتي ذهبت إلى أسرتك، لكني — وللأمانة — احتفظتُ بأشياء تُذكّرني بك. عندما عدتُ من جنازتك بحثتُ في أشيائك التي تركتَ، فوقعت عيني على بقايا العلاج، أمسكتُ بها وتحسّرت. الأوراق التي كنتَ لا تُعيرها اهتمامًا تفحّصتُها وتنهدت... كلّ الأشياء تُذكّرني بحضورك، طيفُك قائمٌ ولا ينتهي.
أنظر إلى نافذة بيتي وأتذكّرك، لم أكن أفتحها إلا للردّ على نداءاتك. لم ينادِ عليَّ أحدٌ من الشارع غيرك. آخر مرة أطللتُ عليك من النافذة سألتني عمّا أريد من السوبرماركت، وقلتَ إنك ستجلب عشاءً، فأخبرتُك: «اعمل حسابي».
أفتقد كلّ هذه التفاصيل: المقهى الذي كنّا نجلس فيه، المطعم الذي كنّا نشتري منه، حتى الأكشاك التي كنّا نبعثر ثلاجاتها للحصول على زجاجة مياهٍ بدرجة برودةٍ مناسبة. كلّ ذلك لا يزال يحمل طيفك... أحاول تعزية نفسي في رحيلك، فقط بدعائي لك بالرحمة والهناء في عالمك الآخر... عالم الموتى.
دون اسم - مصر
قبل أن يتحوّل الحزنُ والفقدُ إلى عادة
في بلدٍ أنهكته الحرب، يرثي كلَّ يومٍ أبناءَه وبناتَه، ويرثي الحجارةَ والأشجار.
بدأتُ أسأل نفسي: ماذا أريد أن أَرثي أنا بعد هذا الكمّ الهائل من الفقد؟
قرّرتُ أن أعود إلى أوّل وأقسى فقدٍ في حياتي، قبل أن يتحوّل الحزنُ والفقدُ إلى عادة. قرّرتُ أن أرثي خالتي مجد.
أريد أن أمحو من ذاكرتي صورةَ يوم الوداع الأليم، وأن أحتفظ فقط بلحظاتِ السعادة التي جمعتنا. أريد أن يبقى صوتُها وهي تُدندِن مع أنغام نجاة الصغيرة في طريقنا إلى منزلها، وهي تُحادثني وتُخطّط لنشاطاتنا أثناء زيارتي لها. كانت مفعمةً بالحياة.
بعد خمس عشرة سنةً من الغياب، ما زلتُ أشتاق إليكِ بشدّة. ما زلتُ أبكيكِ كلَّ ليلة، وأسأل: ماذا لو بقيتِ بيننا؟ ماذا كنتِ ستهدينني في نجاحاتي كما اعتدتِ؟ ماذا لو كنتِ أقوى، فتركتِ زوجكِ الخائن وعِشتِ حياةً أفضل؟
لكنّني أعرف أنّك لو بقيتِ، لكنتِ عشتِ في حزنٍ دائم، حزنٍ على كلّ ما فقدناه في سوريا خلال سنوات الحرب، على زوجكِ الخائن، على شبابِنا الضائع. لأنّكِ شخصٌ مفرطُ الحنان والعاطفة، تحملين قلبًا يتّسع للعالم.
في كلّ مرةٍ أختار أن أكتب عنكِ، لأنّكِ ملهمتي وأوّلُ من آمن بي. أتذكّر وأنا صغيرة كيف كنتِ تنصحين أمّي لتحسّن معاملتي ولا تقسُوَ عليّ.
شكرًا لكِ لأنّكِ كنتِ يومًا موجودةً بيننا، وشكرًا لأنّ ذاكرتكِ ما زالت تُنير دربي.
ها أنا ذا أرثيكِ اليوم، لا لأنسى حزنَ الفراق، بل لأتذكّر كم كانت الحياة أجملَ وأنتِ بيننا.
ماريا، مصياف، سوريا
وأستنبيء عن معنى «البين»
تُردِّد النسوةُ حيث أنا، في رثاءٍ وتخليدٍ لندبِهِنَّ الحيّة والمنبعثة مع كلِّ جرحٍ جديد:
(لابيت أبي عامر، ولا لي قرابة، حيرتني يا بين وين أروح).
أتخطّى معنى البيت، وأستنبيء عن معنى «البين»؛
أيكون الفراقَ وحسب؟
أم النوائبَ التي في معناها «ذهابٌ وإيابٌ للمصائب»؟ رواحٌ واعتيادٌ، هكذا يرتخي الجلدُ تحت العذابات، ويخرجُ قيحُه على شاكلة الكهولة!
أنا مثل الكلّ، من مسافةٍ ما أتنقّل ما بين أرشيف الألم المُعاش إلى أرشيفٍ آخرَ وراء الشاشة، ولا شيء يؤكّد الأهوالَ غير لحظةِ الاستفاقة من خَدَرها.
(لا تعدونا مع الأيام، نحن أبسط وأكثر من ذلك)، تكتب فتاةٌ هذا وتطلب أن تكون قصّةً لا أكثر.
وأسأل نفسي: كم يمكن حقًّا رسمُ مسافةٍ بيني وبين ألمها؟
مثل الكلّ، مثلكنّ، مثلهم...
آخذ رشفةً من فنجاني طلعةَ يومي، ويدبّ في قلبي أسى، كم هناك رغبةٌ طبيعيةٌ وعاديةٌ لآخرَ يُريد هذه الرشفةَ أيضًا، يُفكّر فيها وهو يتقصّى أثر الماء!
وهكذا، أبحث في كركبتي الخاصّة عن نظّارتي، ولا أرى إلّا الركام... الركامَ والرَّدمَ تحته بشرٌ، عظامٌ، ومثلكم همٌّ كان عندهم أملٌ وألم.
بتفاهةٍ ما...
حبّةُ شوكولاتةٍ على مكتبي، وعلبةُ لُبانٍ في حقيبتي أغسل بها مرارةَ حلقي من بلعِ الأيام «العادية»، ونقاشٌ باهِتٌ: مقاطعةٌ؟ لا، مش مقاطعة...
وهناك، في الـ«هناك» الآخر، مثلي ومثلنا، تُريد هي طلاءَ أظافر، وحبّةَ شوكولاتة، ولبانًا، ومنديلًا خاصًّا، وحقيبتَها المتروكةَ على توقيت العودة. تُريد الأشياءَ العادية، الأكثر من عادية، والحرمانُ يجتثُّ من العظام!
وأستمعُ لطالب قرغولي، يرثي بجبروت الحزن العراقي عنّا كلّنا:
«هذا أنا،
نهرٌ عطشان،
آه يا ذلّة النهران من تعطّش،
ولا شالن جفوني غيظ،
ولا قتلك،
قتلني القيظ».
وأراها... تلك التي مثلنا، مثلكنّ،
أصبحت حارسةً لليلٍ أعمى تُكوِّر فيه الشمسَ لأطفالها، ولا أحلكَ من وحشتها.
هناك، عند تلال الموت، على قمّته من امتهنَّ الانتظار، تسأل في القبور عن جسدٍ تدفن معه أصابعَها المقضومةَ حسرةً تحت أيِّ ترابٍ عليل.
«ميلن لا تنقطن كحل فوق الدمّ،
ميلن وردة الخُزامى تنقط سمّ،
جرح صويحب،
بعطابه ما يلتمّ،
أحااه،
شُسِع جرحك،
ما يسدّه ثار،
يا صويحب، وحقّ الدم،
ودمك حارّ،
من بعدك مناجل غيظ،
إيحصِدن النار».
هكذا يحاول أن يرثي القهرَ مظفّر النوّاب عنّا...
والعادي، الأكثر من عادي،
في قميصٍ أسود، وقَدمٍ مكحوته مدفوعةٍ بكلِّ قهرِ الدنيا، يتناول الزمن، يقطفُ قُطوفَ العمر قطفةً تتلو قطفة... مثلهم كلّهم،
مخلوعين الإرادة، العُزَّل إلّا من ليالٍ مثقوبةٍ بالطلقات المباشرة، المظلَّلين ببقايا معركةٍ لا يُجادلون في نتيجتها، بعدما كان وما زال ويظلّ الثمنُ أثمنَ من الكلمة.
الموقدين أفئدتَهم مناراتٍ للدُّجى الذي سلخ بردَه وحرَّه أقلَّ ما فيهم، والغِربانُ تقف بمخالبها تتعلّم الدفن الجديد.
لأعوامِ الاحتمالات المتكسّرة على أبواب العالم الذي لم يفهم كلمةَ الحقّ، وللمحبوسين داخل المنفى، نُبارك لهم — وطنٌ — محروق.
تبحث آلاء، صاحبةُ هذه الصورة المنشورة في نيسان عام ٢٠٢٤، عن حياةٍ ضمن إطار لوحةٍ واحدة.
ويظلّ جرحُ العودة يلمع...
«رجعت على بيتي،
ما لقيتُه لبيتي،
دخانٌ وزوايا... لا وردةَ ولا سور».
إلى ماذا سيعود النهرُ النازف؟
وأيُّ سعيرٍ سيُطيب كلَّ القهر المعشِّش؟
بمَّ التعلُّل؟ لا أهلٌ ولا وطنٌ،
ولا نديمٌ، ولا كأسٌ، ولا سكنُ...
لا حقَّ لي في هذا السؤال، لا حقَّ لنا في أخذ الوجع من أصحابِه الأوّليين.
هذه الحياةُ العاديةُ المسلوخةُ عنهم، لأنّ هناك من يقرّر مثلَنا، ببلاهةٍ ما... لا مبرّرَ للصمت،
ولا عارَ معروفًا أكثرَ من هذه الأعوام.
عامان ليس كمقياس، بل معيارٌ للّاإنسانيّة واللّاعدالة.
تقى محمد نايف الصرايرة - الكرك
أأرثي ما فُقد؟
أأرثي ما فُقد؟
لا أظنّ أنَّ عقلي يستطيع تقبّل فكرة أنَّ ما ذهب لن يعود أبدًا.
لكنّني، للأسف، اعتدتُ على ألم الفقد.
تعلّمتُ أنَّ من رحل صار يسكن وجعي،
صار الألمُ الرابطَ الوحيد بيني وبينهم.
أرثي امرأةً يجب أن تُكتب في خطوط التاريخ، لا أن تُطمَسَ ذكراها فيه.
أرثي جدّتي التي هُجِّرت، وسُرقت أرضُها، وعانت لتستمرَّ في الحياة.
فبعد نكبتها وخروجها من أرضها، لم تسلم،
بل فقدت ابنتيْها، وأجبرها القدر أن تحفر قبرَهما بيديها،
وأن يُدفنا في حديقة المنزل،
لأنَّ القبرَ — هذا الحقَّ البسيطَ من حقوق البشريّة —
أصبح ترفًا لا يستطيع كلُّ فلسطينيٍّ الحصولَ عليه.
لماذا يجب على كلِّ فلسطينيٍّ أن يُثبِت دائمًا أنَّه موجود... وأن ينزف؟
كاميليا - الأردن
مَضَى العَامُ
-١-
قالوا مضى العام
على التي اخترعت البسمات،
ولا يستطيع وصف براءتها كلام.
عام مضى على تلك التي
كانت تفرش الضحكات
على الدروب لؤلؤًا منثورًا،
ويعود من عقلها الأقلام خاوية،
ويعود من فهمها الكتاب مشطورًا.
قد بنينا سويًا في حدائق الأيام
أحلامًا وآمالًا، وشيدنا قصورًا،
فبعد الرحيل ضاعت كلها
هباءً، وصارت حدائقنا بورًا.
-٢-
جدتي:
ما أنت ترحلين،
لكن مشيئة الخالق
علينا كانت قدرًا مقدورًا.
جدتي:
ما أنت التي تتكررين،
فقد كنت في التفرد
مثالًا مشهورًا مشهورًا.
جدتي:
ما أنت التي تُنسين،
فقد كنت سطرًا
في حجر الأيام محفورًا.
-٣-
جدتي
بالله، كيف تنبت الأزهار؟
وكيف، وأنت غائبة، تورق الأشجار؟
فمنذ رحلت يا حبيبتي،
وأنا أسقي بالدموع
فوق قبرك زروع الصبار.
ومنذ رحلت يا حبيبتي،
وأنا لم أعد أفرق
ما بين ليل وما بين النهار.
جدتي،
ضحكاتنا تزورني كل ليلة،
وما زلت أذكر خرفشات صدورنا
من كثرة الضحك،
وأذكر كل تفاصيل الحوار.
-٤-
آه يا جدتي،
لو بحالي تدرين،
ولأمانيا العليلات
بعدك تبصرين...
ترى ما الذي كنت تقولين؟
أكنت ستضحكين وتسخرين؟
أم يا ترى علي كنت ستبكين؟
جدتي، رغم الرحيل ورغم الغياب،
لكني أعرف الجواب،
ذلك الجواب الذي
سيمزق صدري كسكين:
ستقولين:
"من فرط الحزن
ومن كثرة الأنين،
قد ضاع الشباب الذي
كان أبيض مثل زهر الياسمين."
صدقت يا حبيبتي،
فقد كان يغيب الفرح عني
دائمًا عندما كنت تغيبين.
صدقت يا حبيبتي،
فقد كان يغيب الفرح عني
دائمًا عندما كنت تغيبين.
ستقولين:
"من فرط الحزن
ومن كثرة الأنين،
قد ضاع الشباب الذي
كان أبيض مثل زهر الياسمين."
صدقت يا حبيبتي،
فقد كان يغيب الفرح عني
دائمًا عندما كنت تغيبين.
-٥-
أيا دفئنا،
يا نسيم الليالي،
نحن الآن نعاني اللهيب.
فهلا تعودين يا جدتي
إلى المساء حتى يطيب؟
جدتي، يغمرنا البرد،
يصعقنا البرق،
يقتلنا الصقيع.
نحن نعاني سهراتنا،
فلا نعرف النوم،
ولا يعرفنا الهجيع.
جدتي، هل ما زالت
تأخذ الأزهار الإذن من وجنتيك
في الطلوع قبل مجيء الربيع؟
--٦
جدتي
بالله، كيف حالك بعد الرحيل؟
وكيف حال الدفء في عينيك
والظل الظليل؟
هل في عتمة القبر
لا يزال يضيء في وجنتيك
الحمراوان
ألطف قنديل؟
سلام عليك يا جدتي،
في جنة الخلد لقْيانا
تحت أشجار النخيل.
قد كان عمري معك قليلًا،
فإلى جلوس لا ينتهي يا جدتي،
وإلى لقاء طويل… طويل.
--٧
وفي ذكراك،
يا قرة العين،
أقرئك سلامي.
نامي في حفظ من الله،
وفي سلام... نامي.
عُمَر صَابِر - الاسكندرية ، مصر
ففي الرثاء مساحةٌ للتمرّد
يمتدّ الفقد في حياتنا كطيف، نعرف ملامح بعضه، وبعضه يسكننا دون اسم. في عالمٍ يضيق بالحدود والصراعات يصبح الرثاء ترفًا مؤجّلًا، لكننا نستحقّ أن نرثي. نرثي لنستعيد ما سُلِب منّا، ولنذكّر أنفسنا بأنّ الحياة ليست نقيض الموت، بل مقاومته اليومية، وأنّ كل لحظةٍ من الحبّ والحرية تحمل في طيّاتها تحدّيًا. لا يخصّ الفقد من عاشوا الحرب وحدهم، فهناك حروبٌ صغيرة تدور في داخل كلّ واحدةٍ منّا، بين ما نحن عليه وما أردنا أن نكونه، وبين ما تمنحنا الحياة وما تسلبه في اللحظة ذاتها. تتحكّم الحدود والأنظمة السياسية والاقتصادية في خياراتنا، وتفرض سياسات الدول قيودًا على تحرّكاتنا، وتصنع اللغة الفارق بين ما يمكن أن يُقال وما يُحجَب. كلّ هذه القوى تحفر فينا الخوف والشكّ، وتجعلنا أكثر حرصًا على البقاء على قيد الحياة وأقلّ جرأةً على أن نحبّ بحرية.
أفكّر أحيانًا أنّ النساء وُلدن في حروبٍ لا تُسمّى، حروبٍ لا تترك جثثًا في الشوارع، ولكنّها تُثقِل كاهلهنّ بالخذلان، وتدفن أحلامهنّ وآمالهنّ في مطابخ البيوت أو في صمتٍ طويلٍ بعد جدالٍ غير منصف. هناك، حيث يختلط الإحباط بالحنين، تصبح الرغبة في التحرّك أو الكلام مغامرةً صغيرة، تُجبرهنّ على الابتعاد عن أنفسهنّ للحظةٍ، وعلى إعادة ترتيب حضورهنّ في عالمٍ لا يرحم. البوح هنا لا يعني البكاء على الأطلال، بل أن نكتب تاريخًا موازيًا للحزن، أن نحكي كي لا نُمحى، وأن “أستفرغ” هذه الكلمات كي لا أختنق.
أكتب الآن لأستعيد ذلك الإحساس بالامتلاء. أكتب لأنّ الكتابة ما زالت تُبقي اللغة تنبض. أنا أيضًا فقدت، وإن لم يكن بيتي مهدّمًا ولا سمائي مشتعلة. فقدتُ حبًّا أردت أن أعيشه بحرية، محاولةً أن أكسر قيودًا متغلغلةً فينا منذ صِغرنا، قيودًا فرضها علينا العالم الذي يحدّ من رغباتنا ويصنّفها، ويعلّمنا الخوف من الحبّ ويزرع الشكّ والتردّد حتى في أحلامنا. فقدتُ شعور الألفة حين واجهتُ مع أحبّتي صعوباتٍ لم نستطع تجاوزها، وكأنّ طاقة الحروب وجدت طريقها إلينا لتصنع منّا كائناتٍ أكثر صلابةً وقسوةً وأقلّ قدرةً على الحبّ. فقدتُ الأمان حين سعيتُ لأكون صادقةً مع نفسي ومع من يحيطني، وما زال قلبي يحاول أن ينتصر للحبّ ويذكّرني بأنّ النجاة الحقيقية ليست في التصلّب، بل في ألّا أفقد قدرتي على الحنوّ تجاه نفسي وتجاه من حولي.
حين فقدتُه، لم أفقد قلبًا يحبّ، بل فقدتُ ثقتي في أنّ العالم يمكن أن يحتمل حبًّا لا يُشبِهه. كنتُ أحمل في عينيَّ إيمانًا بأنّنا نستطيع أن نكون أحرارًا دون أن نؤذي أحدًا، وأنّ القسوة ليست شرطًا للحرية، بل إنّ اللين شكلٌ آخر من القوة. بيد أنّ هذا العالم أقسى من أن يحتمل هشاشتنا الجميلة، فالحرية عنده رغبةٌ مريبة، والعاطفة ضعفٌ يُعاقَب. في كلّ مرة أحببت، وجدت نفسي مضطرةً لأن أقول: “أنا لا أرفض الحبّ، بل أرفض شكلَه الملتبس. أرفض أن يكون الحبّ امتلاكًا أو صمتًا أو تضحيةً أحادية الجانب. أريد حبًّا متبادلًا يقبل الاختلاف كجزءٍ من جماله. أنا أحاول... لستُ قويّةً كما تظنّون، أنا فقط أحاول ألّا أنهار.” فقدتُ الإحساس بأنّ الحبّ ممكن دون شرح، وفقدت الثقة بأنّ حرية القلب والجسد لا تحتاج إلى دفاعٍ مستمرّ، وفقدت أحيانًا الإيمان بأنّ كسر القيود ممكن.
كلّ محاولةٍ منّي لكسر القيد كانت تُربكني أكثر، حتى ظننت أنّني أتحرّر لأكتشف أنّني أعيد تشكيل قيودي بلونٍ آخر من الأنوثة والوعي. حين يتشقّق الحبّ، تتشقّق معه اللغة التي كنّا نفهم بها العالم. تصبح الأشياء متعبةً، الشوارع والأسماء والروائح وحتى الذاكرة تُصاب بالارتباك وكأنّها لا تعرف أيّ نسخةٍ منّا يجب أن تحفظ. أحيانًا أظنّ أنّ الفقد ليس النهاية، بل اختلاطُ حياةٍ بأخرى، حياةٌ نغادر فيها أنفسنا القديمة دون أن نعرف كيف نعود، وهو ليس حلقةً أخيرةً للعلاقات، بل تحوّلٌ للصورة التي كنّا نرى بها أنفسنا.
أفكّر كثيرًا في الفقد الجماعي، في الذين فقدوا بيوتًا لا يعرفون كيف يعودون إليها، والذين يعيشون في مدنٍ بلا جدرانٍ آمنةٍ ولا قبورٍ كافية. هؤلاء لا يملكون ترف التأمّل، لكنّهم يعلّموننا معنى البقاء. حين أقرأ أخبار القصف، أشعر أنَّ حزني الصغير يختبئ خجلًا، ثم أفهم أن المقارنة نفسها ظالمة، فالفقد لا يُقاس، والألم لا يعرف تراتبية. هناك دائمًا من يفقد، وكلُّ فقدٍ يخصّ صاحبته بعمقٍ لا يمكن محاكاته. أكتب هنا عن الفقد، وأتذكّر أمهاتٍ فقدن أسماء أولادهنّ في القوائم، وصديقاتٍ يحلمن بحياةٍ عاديةٍ كأنّها معجزة. أقول لنفسي: لا أحد ينجو فعلًا، نحن فقط نتعلّم أشكالًا مختلفةً من العيش مع الخسارة.
أحاول أن أتصوّر النسوية وهي تكتب الفقد، لا كبكاءٍ جماعي، بل كفعل مقاومةٍ ضدّ محو العاطفة. النسوية التي أؤمن بها لا تمجّد الصلابة، بل تُرمّم هشاشتنا وتمنحها حقّ الوجود. الفقد في منظورها ليس ضعفًا، بل ذاكرةٌ حيّةٌ وشهادةٌ على أنّنا أحببنا بما يكفي لنفقد. هي لا تضع الحرب على الهامش، لكنها تقول إنّ الحرب ليست فقط ما يحدث بالسلاح، بل أيضًا ما يحدث حين تُمنَع امرأة من أن تحبّ نفسها كما هي، أو حين تُربّى لتصمت لأنّ صوتها مزعج. تعلّمنا النسوية أن نحمل هذا الوعي معًا، ليست كشعاراتٍ أو مفاهيم، بل كحياةٍ يومية: أن نحبّ رغم القيود، وأن نغفر لأنفسنا ما لا نستطيع تغييره، وأن نكون كاملاتٍ في هشاشتنا، ونحافظ على قوّتنا في مواجهة الفقد المستمرّ، العاطفيّ أو الجماعيّ أو الذي أنتجه الاحتلال وراكمته الحروب.
ربّما تكون الكتابة شكلًا من أشكال النجاة، فما لا نمنحه معنى يتحوّل إلى حجرٍ في صدورنا. تصبح الكتابة هنا أداةً لتفكيك ما تركه الاستعمار فينا من رواسب عميقة: حياةٌ مقسّمة، وقلوبٌ مقيّدة، ورغباتٌ مضبوطة بالحدود، ومستقبلٌ يتحكّم فيه الاقتصاد والسياسة وطرق تفكيرٍ مشوّهة. نستشعر ذلك في حياتنا اليومية من خلال أشياء مرئيةٍ كبطء الحركة، والخوف من أن نحلم، والقلق الدائم من الوحدة ومن عدم الانتماء الكامل. أشعر أحيانًا أنّنا، كنساءٍ ونسويات، نحمل صراعَنا الداخلي مع العالم كمرآةٍ لصراعٍ أكبر. فليس كلّ فقدٍ ظاهرٍ في الأخبار، لكنّ كلَّ ما يحدث خلف الحدود وفي التفاصيل اليومية هو امتدادٌ للصراعات نفسها. علينا أن نكتب عنها كي لا نختفي، وكي لا يصبح الألم مجرّد إحصاء، بل تجربةً حيّةً تُذكّرنا بأنّ الحياة لا تزال ممكنة.
حين أكتب، أُعيد ترتيب الشظايا لا لأُلصقها كما كانت، بل لأفهم شكلها الجديد. الكتابة تُعلّمني أن الفقد لا يُمحى بل يُعاد تأويله، وأنّ العيش بعد الخسارة ليس خيانةً للذين رحلوا أو لما انتهى، بل طريقةٌ للوفاء بما كنتُ أحمل أثره وأمضي. كلّ كلمةٍ نكتبها عن الفقد تُعيد تركيب العالم من جديد، وكلّ رثاءٍ يفتح ثغرةً في جدار القسوة. ربّما لا نوقف الحرب، لكنّنا نمنعها من أن تحتلّ أرواحنا. هذا كلّ ما يمكننا فعله: أن نرثي كي نبقى، وأن نكتب كي نحيا.
نرثي كي لا نصمت، لأنّ الصمت شكلٌ آخر من الفقد، ولأنّ من لم يتكلّم ضاع صوتُه في طبقات الغبار. ففي الرثاء مساحةٌ للتمرّد، كأن نقول للألم إنّنا نراه ولكنّنا لا نركع له. نرثي كي نكسر منطق “الأكبر والأهم” الذي يجعل فقدَنا الشخصيّ يبدو تافهًا. لكن التفاصيل الصغيرة هي ما تصنع الحياة، ككوب القهوة الذي لم يُكمِل صباحه، ورائحة القميص، والرسالة غير المُرسلة، والشجرة التي كانت ظلًّا لصداقةٍ قديمة. لا نهرب من جروحنا حين نرثيها، بل نمنع العالم من أن يُقنعنا بأنّ الجروح الصغيرة لا تُحتسب. الرثاء إذن هو جسرُ التعاطف، هو أن نمدّ حزننا ليلامس أحزان الآخرين دون أن نمحو خصوصية أيٍّ منها. الرثاء يمنحنا طريقَ العودة.
الرثاء الذي نمارسه ليس رفاهيةً بل ضرورة، هو تذكيرٌ يوميٌّ بأنّنا نعيش ونحبّ، وأنّنا نرفض أن تصبح حياتُنا مجرّد امتدادٍ لفقدنا. إذ نُعيد تسمية ما فقدناه كي لا يتحوّل إلى فراغٍ مُبهم. نكتب أسماءَهم وأسماءَنا وأسماءَ الأماكن التي غابت، لأنّ التسمية مقاومةٌ للنسيان. في هذا المعنى يتحوّل الرثاء إلى فعلٍ سياسيّ، أن تبكي علنًا في عالمٍ يريدك بلا تعاطف هو شكلٌ من أشكال العصيان، وأن تكتب عن الحبّ في زمن القوة والقسوة والصلابة هو تحدٍّ للمنطق السائد، وأن تعترف بفقدك في عالمٍ يسخر من العاطفة هو إعلانُ بقاءٍ على قيد الإنسانية.
أكتب مدركةً أنّني لا أرثي شخصًا بعينه، بل أرثي كلَّ تجربةٍ فقدت معناها في العالم الذي يفرض علينا قواعده. أرثي نفسي التي أحبّت بعمقٍ وأدركت حدودَ الحرية المفروضة عليها. هذه ليست مرثيّةً للحبّ وحده ولا للحروب التي تملأ العالم، بل للحياة التي نحاول استعادتها رغم كلّ شيء. نكتبها لا كمن يُودّع، بل كمن يبدأ من جديد. الفقد لا ينتهي، لكنّه يتبدّل، والرثاء لا يُغلق الباب، بل يفتحه على اتساعه لكلّ ما يمكن أن يكون. أرثي كلَّ ما نعيشه من استعمارٍ على حياتنا اليومية وقلوبنا وأفكارنا. أرثي لأُذكّر نفسي — وأنفسنا — أنّنا ما زلنا نعيش ونحبّ ونحلم في عالمٍ يحاول أن يجعل من الفقد قدرًا حتميًّا، فيما نحاول نحن أن نحوّله إلى شكلٍ آخر من الحياة.
بدون أسم - تونس
أرثي الأرض والسماء والضحكات
أرثي الأرض والسماء والضحكات
أرثي الأرض التي تحترق تحت أقدام من يظنّون أنهم يستطيعون امتلاكها.
أرثي بلادنا التي عانت طويلًا، التي يُكتب لها الحكم بأحكامٍ لا تُشبهها، والتي يُفرَض عليها من لا يعرفها، ولا يعرف وجعها.
أرثي السماء التي لم تَعُد صافية، والهواء الذي يختنق، والبيوت التي تَهدّمت دون رحمة.
أرثي كلَّ قلبٍ يخاف أن يحبّ، وكلَّ حلمٍ يُرهبه الظلم، وكلَّ روحٍ تُكبَّل بحكمٍ لم تختَره.
أرثي نفسي، الغريبةَ عن الأرض التي أحببتُها قبل أن أعيشها حقًّا.
أرثي نفسي التي لم تعرف الأمان، وطفولتي التي ضاعت بين الغربة والفقد.
أرثي المرأة التي تعلَم كيف تصمُد، التي تعرف أن المقاومة تبدأ من القلب، من النفس، ومن كلّ يومٍ نعيشه رغم القيود والظلم والفقد المستمرّ.
أرثي الضحكات التي خفَت صوتُها، والطرقَ التي لم نعد نمشيها بحرية.
أرثي القوةَ التي تعلّمت أن تولَد من بين الركام، أن تكون صامدةً، حرّةً، متشبّثةً بالحياة مهما أخذوا منها.
أكتب لأرثي، لأقاوِم، لأبقى حيّة،
لأُذكّر نفسي أننا ما زلنا هنا،
أننا نستحقّ أن نحلم، أن نحبّ، أن نكون أحرارًا على أرضٍ حاولوا مرارًا أن يسرقوها منّا، ولم يستطيعوا.
لأنّ في الرثاء حياةً جديدة،
وفي كلّ وجعٍ يولد ضوء،
وفي كلّ امرأةٍ تنجو، تولَد أرض.
سالي ترك، سورية من المنفى
الفتاة التي كنتُ عليها قبل السابع من أكتوبر
في رثاء تلك الفتاة التي كنتُ عليها قبل السابع من أكتوبر.
لم تكن هذه الهشاشة جزءًا من شخصيّتي. أعرف جيّدًا أنّني كنتُ متعاطفةً دائمًا مع الجميع من حولي، لكنّها المرّة الأولى التي أجد فيها ما حولي يتسلّل إلى داخلي، يخترق هذا الحاجز الوهميّ الذي لطالما وضعته وأحسنتُ تشييده بيني وبين كلّ مؤثّرٍ خارجيّ، مانعةً إيّاه من المساس بسلامي الداخلي.
ولكن ليس بعد السابع من أكتوبر؛ لم يعُد هذا الحاجز قادرًا على حمايتي من الانهيار.
لا أستطيع استخراج كلّ هذا الركام من صدري، كلّ تلك المشاهد والدماء والدموع،
كلّها تسلّلت إلى داخلي تاركةً أثرَ ندبةٍ عميقةٍ تحمل في داخلها الصورَ والأشخاصَ والأصواتَ المؤلمة.
أرثي تلك الشجاعة الصلبة التي اعتادت الصمودَ والنضالَ والتماسك، بعدما تحوّلت إلى خائفةٍ تفكّر في مدى قدرتها على تحمّل خسارة الأشياء التي تُحبّها، قبل أن تفكّر في إظهار هذا الحبّ أو ممارسته حتّى.
أرثيها وأنا أعرف كم هو صعبٌ استعادتها، وأخشى أن تكون مستحيلة.
هالة -الأردن
كيف يفقد الإنسان قدرته على الفقدان؟
لم تعد البلاد ذاتها، ولا الذاكرة نفسها. تخونني هذه الأيام ذاكرتي، أفتش فيها عن ذاتي، تلك التي تركتها مع أصدقاء وعائلة وشوارع وأبنية. تخونني الذاكرة والمشاعر وأنا أحاول الشعور، مدركة في كل لحظة أنني مذنبة، يراقصني الذنب، يلوح بي من فكرة لأخرى، يغرقني في تخيلاتي، وفوق الذنب ذنب، ذنب النجاة مضاعف، نجاة من حيث جئت لصدفة جغرافية لعينة، ونجاة في مكان لا نعرف فيه سوى محاولات اللا-موت. ذنب الشعور المستحيل فهمه، أحاول أن ألطخني بالمأساة علّني أنجو من الذنب فقط، فماذا يعني أن أفهم الوجع؟
أعترف أنني فشلت بشكل ناجح جدًا في فهم قبح العالم، وأن كل آمالي الطائشة تبددت وتفتت، كما البلاد، وأنني لا زلت أفشل في فهم وجع طفل فقد فقدانه، كبر قبل أوانه، وسيعيش مع وجعه ما حيي. مخيف أنني لا أستطيع فهم الشعور، والمخيف أكثر هو أنه سيظل يراني مذنبةً، هو سيعيش مع فقده، وكلٌّ منا سيعيش مع ذنبه.
وعلى قائمة اعترافاتي أقول إن مخيلتي قد قُتلت، أو أنني قتلتها مفسحة المجال للنحيب. وجدت نفسي بعد عامين من الإبادة فارغةً من كل شيء، كل ما ظننته ممكنًا في لحظةِ طيشٍ بات اليوم ركامًا. ولا زلت أتجمد مكاني، لا مأوى لكل هذا الضياع.
أعود فأنفض الفكرة والوجع والسؤال في منفضتي التي فاض بها الغبار والركام، وكأن الفقد ذاته لم يعد ممكنًا. ظلت جملته ترن في أذني، لم أفهمها، كيف يفقد الإنسان قدرته على الفقدان؟ كيف نفقد نحن – كفلسطينيين – قدرةً كهذه؟ الآن فقط فهمت.
منية - الدوحة
أرثي ماضياً يعينني على الوجود
أفكّر في موقعيّتي وخياراتي، وفي مكان ولادتي الذي أجبرني أن أعيش الفقد حتى قبل أن أُولد؛ أن أكون جزءًا من جماعةٍ فقدت ذاتها، أجيالٍ سبقتني في الوجود فقدت كلّ شيء. أن أُولد وسط تاريخٍ طويلٍ من الفقد، يعني أن أمارس نعيًا مستمرًّا، أرثي ما كان ولم أشهده، ما كان يجب أن يكون، وما يمكن أن يكون. وأن أُضطرّ لاتخاذ قراراتٍ بالفقد أيضًا، أن أفقد جزءًا منّي أنا لإنقاذ “أنا” أخرى، وأن أرثي تلك التي قرّرت أن أفقدها مضطرّة.
أفكّر فيها، تلك التي كانت كثيرةَ الكلام وصاخبةَ الصوت حدّ الإزعاج، وهذه الآن التي فقدت القدرة على الفقد، وفقدت لغتها، وأصبح الصمت جزءًا مستغرَبًا منها. داخل دوّامات الصمت الصاخب، يهلع عقلي، يركض وراء الكلمات محاولًا الإمساك بها لإنقاذنا. لكنّ الكلمات تبدو صغيرةً، غير ناضجة، ضعيفةً لا تقوى على الوقوف وحدها. فأصمت، ويُحفَر في أعماقي سكونٌ أكبر، أثقل.
أنظر حولي فأجد كلَّ من أحببتُ يَتضاءل أيضًا، وسط تكشّف بشاعة العالم التي ظننتُ سابقًا أننا عرفناها وحفظناها. ولا أعرف، هل عليّ أن أبدأ برثاء وجودهم المفتقد؟ أم برثاء تلك المفتقدة؟ ثم أسأل نفسي: ماذا يعني فقدٌ ضئيل مقابل هذا الكمّ؟ هل تستحقّ هذه الجروح الاعتناء فعلًا؟ الدفء؟ الاحتواء؟ الاستماع؟ هل الحزن هذا مشروع؟
خلال الأيام الأخيرة الماضية، وكلّ ما حملته من ثِقلٍ وتيه، أحاول أن أُذكّر نفسي بما هو بسيطٌ وهادئ في وسط هذا التعقيد؛ مثل ظهور الغيوم التي تحمل ريحًا خفيفةً باردةً تخبرني بتغيّر الفصل وما يحمله معه من دفء. أو مثل فقرة النوستالجيا اليوميّة، حين أعود إلى ذلك المقهى الذي احتضن كلَّ تلك الوجوه والضحكات والجدّية والبكاء؛ نقطةِ تجمّعنا اليوميّة التي تذمّرنا من برودتها، لكننا لم نعلم أنها ستكون الأكثر دفئًا.
تنقذني هذه الذكريات بقدر إحضارها للدموع، تدفئ قلبي الذي أخاف عليه من عدوى التصلّب. تنقذني تلك الأحضان الماضية، وتلك الوجوهُ التي حملتْ عنّي أكثرَ ممّا حملتُ أنا، وتلك الأصواتُ التي شرعنتْ ألمي في كلّ مرّةٍ ظننتُه فيها تافهًا. أرثي ماضيًا يُعينني على الوجود، على الحاضر.
مَيار
في الحزنِ أبيعُ نفسي وأشتريها
في الحزنِ أبيع نفسي اشتريها
رغم أنّي لا أرحِّبُ بالأحزانِ قاطبةً
ولستُ من هواةِ الأسى
ولا أحبُّ هيئتي حين البكاء
ولا استعجال نفسي للسّقوط في حلبةٍ سوداء
ولا ترصّدي للأشباحِ المسكونة بي
إنّي أكره فيّ ما فيّ
وألتهمُ قلبي كلّ ليلة كوحشٍ يفترسُ الرّشا؛
فالحزنُ طاغيةٌ..
يؤلِّف ناره طغاةٌ آخرون
وأبدًا هنالك وجهٌ حزينٌ صامدٌ
يقف في وجه الطّغاة؛
لذلك تقدّم أيّها الحزن ثانيًا،
تقدّم، وانحنِ
لقدْ كنتَ في مرمى نيران الأبطال
غير ناجٍ
وقدْ كان حنينُ الصّامدِ لهزيمتِك
معناه، وأصلَه، وجدواه
..
وفي فنِّ البكاء
أبكي غزّة بكلِّ مَنْ وما فيها
أبكي البحرَ الحزين
الشّجرة الوحيدة بين الرّماد
خيّامًا على الأطلال
رغدَ غزّة المهيب
الّذي حوصرَ تحتَ الأنقاض
أبكي الأحلام الوفيرة
الّتي تمسّك بها حالِموها
وقطّعت أيديهم ترسانةُ الصّهيونيّةِ
أبكي الأمل الدّفين في قلوب الآملين
الّذين ربّوه حتّى تعبوا منه
أبكي حزن الصّامدين
الّذين اختاروا أن يصمدوا
لا أن ينهاروا
أبكي السّلاح في حنينه للشّهيد المقاوم
والمقاوم الشّهيد في لهفته نحو سلاحه
أبكي الفقد الشّديد
الّذي يعتلي كلّ ما نريده
الّذي يسرقُ الأمل
الحبّ، الإنسانيّة، والفرح
أبكي كلّ ما أستطيعُ أن أبكيه
وفي ذروةِ الألم
أبكي كلّ أولئك الّذين وحدهم يعرفون الجدوى
مهما بدا الأمرُ للعوام أهوجًا وغير منطقيّ
أبكي كلّ أولئك الّذين آمنوا بالفعل التّحرّريّ
ودفعوا أرواحهم ثمنًا للإيمان
أولئك الّذين يحفرون نحو الشّمس عُراةً، جوعى، حُفاة
وأبكي إذ أبكي
بكاءً طويلًا
ورثاءً لا يحدّه عويل
نفسي المقهورة
فكم خسرتُ نفسي! ومضيتُ
أحملُ خساراتي والأمل
هذه الحرب أخذت الكثير
وكعادةِ الصّهيونيّة في الاستلاب
سلبتني حتّى من أمانيّ
ومِنْ قدرتي على البقاء حتّى اليوم التّالي
أبكي هذا القلب المنكسر
الّذي لا يشبهُ ذاته
ويتسوّلُ الأمل بعدَ أنْ تسرّب منهُ كلُّه؛
لذلك، أنا في الحزنِ أبيعُ نفسي واشتريها.
مزيّن زاهدة - رام اللّه، فلسطين.
وثبةٍ فوق الذكريات.
أرثي حالي من بعض آثاري،
لعلّي أرثي الغائبين الحاضرين.
لا أجد في المراثي سوى قلّةِ الحيلة،
ذكرياتٌ تسدّ وجع الحاضرِ بكلمات،
إلّا أنّني أصنع الآن حاضري بوثبةٍ
فوق الذكريات.
إسلام أبوالقاسم، لاجئة سودانية مقيمة في القاهرة
مَن لم نجد وقتًا لرثائهم
نرثي مَن لم نجد وقتًا لرثائهم،
مَن غابوا في الزحام، ولم نجد أسماءهم في القوائم،
مَن صاروا رقمًا مؤقّتًا في خبرٍ عابر،
ومَن صاروا جثثًا مؤجّلةً في أعين أطفالهم.
نرثي البيوتَ التي كانت تنام مطمئنّة،
والطرقاتِ التي عرفت خطواتهم،
والمقاهيَ التي حفظت ضحكاتٍ لم يَعُد لها أصحابها.
ونرثي الخبزَ الساخن حين كان يصل دون دماءٍ وخوف،
والحلمَ حين لم يكن ترفًا.
نرثي أنفسنا أيضًا،
لنتذكّر أنّنا لم نُخلق لِنعتاد الخراب،
ولأنّنا نرفض أن نصير أرقامًا،
ولكي نمنح الغيابَ شكلًا،
والوجعَ صوتًا.
سارة مسك - عمان، الأردن
نحن نساء الفقد
استحضر النساء اللواتي كُسرن ولم يُسمع صوتهن، اللواتي وُضعن في الصفوف الخلفية للحكايات وكأنّ وجودهنّ هامشٌ لا يُذكر.
استحضر كلّ امرأةٍ خاضت حربًا صامتة خلف الأبواب المغلقة، ضدّ وجعٍ لم يُسمَّ حربًا، وضدّ قهرٍ كان يُسمّى واجبًا أو طاعة.
استحضر الأمهات اللواتي أنجبن العالم ثمّ وقفن على الأطلال،
ينتظرن أبناءهنّ من الغياب، ولا أحد ينتظرهنّ.
استحضر الجدّات اللواتي حكَيْن قصصًا ناقصة لأنّ التاريخ بُني على أنقاض أصواتهنّ.
واستحضر اللواتي لم تُتح لهنّ فرصة الحكاية أصلًا،
فحملن حكاياتهنّ في العيون، في التجاعيد، في المواعين الفارغة من الأكل والمليئة بالصبر.
استحضر النساء اللواتي حملن أطفالهنّ في حضن الخوف،
وأطعمنهم خبزًا من وجعٍ قديم، وأغانيَ تهدهد الألم أكثر ممّا تُسكته.
استحضر اللواتي سُلبت أجسادهنّ باسم الشرف،
وأرواحهنّ باسم التضحية،
وصوتهنّ باسم "العيب"،
وحلمهنّ باسم "الواجب".
لكنّي أيضًا أستحضر القوة التي لم تُدفن رغم التراب،
استحضر المرأة التي مسحت دموعها ورفعت وجهها إلى السماء وقالت:
"لن أعيش في ظلّ أحدٍ بعد الآن."
استحضر اللواتي كتبن على جدران الخراب جملةً بسيطة:
"نحن ما زلنا هنا، وسنروي الحكاية."
نحن نساء الفقد، نحمل الموت في ذاكرتنا والحياة في صدورنا.
نحمل خيبات الأجيال السابقة على أكتافنا، لا لننوء بها، بل لنُكمل الطريق.
نكتب كي لا نُنسى،
ونكتب لأنّ الكتابة فعلُ حياةٍ في وجه كلّ ما يريد لنا الصمت.
نكتب لنُذكّر أنّ المرأة، مهما حوصرت،
تخلق من الرماد شمسًا،
ومن الخراب وطنًا،
ومن الوجع حكايةً تشبه الخلاص.
منتهى محمدي - تونس
كنتُ أتوسّل إليه أن ينزح
لم أكن أعلم عندما اتصلتُ بوالدي للاطمئنان عليه يوم السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤ أنّ القذائف كانت تتساقط على الجبال المحيطة بمنزلنا في جنوب لبنان. فقد اتصلتُ به مقتنعةً، لسببٍ ما، بأنّ جنون العدوان الإسرائيليّ ذلك اليوم لن يطال ضيعتنا بشكلٍ كبير، فهي بعيدةٌ عن الحدود اللبنانية–الفلسطينية. كان والدي حائرًا؛ لا يريد أن يترك منزله من جهة، ويرى وتيرة القصف تتصاعد من جهةٍ أخرى. أما أنا، وعلى الجهة الأخرى من الهاتف، فكنتُ أتوسّل إليه أن ينزح. لا أذكر الكثير من هذه المكالمة سوى شعور الرعب ممّا يمكن أن يحدث:
"هل ستصل عائلتي إلى بيروت سالمة؟
ماذا لو قصفت إسرائيل الجسور والطرقات وارتكبت المجازر بالناس العالقين على الطرقات محاولين الهرب؟
ماذا لو تحوّلت محاولة الهرب إلى مجزرةٍ أخرى؟
فنحن نعرف إسرائيل وجنونها جيدًا."
كلّ شيءٍ يفقد معناه ويصبح هشًّا في وجه آلة القتل؛ فهي قادرة على أن تمحو كلّ شيءٍ في لحظة، وأن تغيّر مجرى حياتنا في ثانية. من الأمور التي أذكرها أيضًا تمسّكي بالهاتف كأنّه الوسيلة الوحيدة لضمان النجاة. فها أنا في بقعةٍ أخرى من العالم أتابع القصف الجنونيّ على جنوب لبنان عبر شاشة هاتفي الصغيرة، وأحاول معرفة تفاصيل ما يحدث من المعلومات التي أستطيع الحصول عليها من والدي. كم وددتُ لو أستطيع اختراق شاشة الهاتف في تلك اللحظة لأكون مع عائلتي، وكم غضبتُ من شعوري بالعجز وقلة الحيلة تجاه كلّ ما يجري. هناك اغترابٌ عميقٌ يرافق متابعة الكوارث التي تحلّ ببلادنا عبر شاشات هواتفنا، إذ تختزلها إلى مشاهد تجعل منّا مجرّد متفرّجين، وتجرّد الأحداث من قسوتها، فتحوّلها إلى محتوى قابلٍ للاستهلاك.
وصلت عائلتي إلى بيروت سالمة، وواصل العدوّ الإسرائيليّ حربه على مختلف الضيع والمناطق في لبنان، وبقي شعور العجز يرافقني. تزامن ذلك مع تواجدي في بلدٍ داعمٍ للصهيونية ومدافعٍ عنها حتى النهاية. ومع أنّني كنت أعلم بذلك، فإنّ مواجهة هذا الواقع كانت صعبة، ولم أكن جاهزةً لها. مثلًا، لم أكن جاهزةً للتواجد في الغرفة نفسها مع أشخاصٍ يؤمنون بأنّ إبادتنا مُحقّة، وبأنّ حياة الإسرائيليين أكثر أهميةً من حياتنا كعرب. لم أكن جاهزةً للأرق الذي أصابني بعد أول مواجهةٍ لي مع صهيونيٍّ تعمّد التواجد في اجتماعاتٍ داعمةٍ لفلسطين لتخريبها ولنعتنا بالمعادين للسامية. لم أكن جاهزةً لمتابعة القصف العنيف لضيعتي عبر هاتفي، ولسماع صوت والدي المتعب عبر الهاتف محاولًا التمسّك بأمل انتهاء الحرب في وقتٍ قريب. لم أكن جاهزةً لمواصلة عملي والمضيّ في يومي بعدها وكأنّ شيئًا لم يحدث، ولحالات ضيق النفس التي أصبحت تلازمني لأشهرٍ عديدة.
أنا أعلم أنّ الاحتلال والاستعمار يُراهنان على شعورنا بالعجز لضمان استمراريّتهما، وأعلم بأهمية محاربة هذا الشعور وتحويله إلى فعلٍ مقاوم، مهما كان هذا الفعل صغيرًا. وأعلم أيضًا أنّ إحدى أدوات الاحتلال هي سلبُنا قدرتنا على الإحساس، وعلى الحزن، وعلى الرثاء. فهو لا يسلب حقّنا في الحياة فقط، بل حقّنا في الموت، وفي رثاء الموت. لا أعتقد أنّ لدينا القدرة على رثاء هذا الكمّ الهائل من الموت الذي من حولنا، وإن حاولنا، فإننا بحاجةٍ إلى سنين، ومجالس عزاء، وطقوسٍ طويلةٍ وعديدة.
من جهتي، جعلتني السنتان الماضيتان أؤمن أكثر بأنّ نجاتنا جماعية، وغضبنا جماعي، ورثاءنا جماعي، وبأنّ عملنا وتخطيطنا للمواصلة والبقاء لا يمكن أن يكونا إلّا بشكلٍ جماعي.
زينة محيدلي -فرنسا
السرطان الذي لم ينجُ منه أحد
دقات قلب متسارعة.. أنفاس متصاعدة.. والجميع يركض تجاه الشرفة
ونعم كما توقعنا.. الكيان الصهيوني يستهدف دمشق من جديد، وهذه المرة كانت الأقرب لمكاني.
كنا في مكتب العمل جميعاً، ثم دوى الانفجار الذي هزّ المكان لنسرع جميعاً إلى "البلكون" ونرى الدخان الأسود يتصاعد في السماء من المبنى القريب.
استهداف جديد.. ولا حاجة لنشرات الأخبار كي نعلم أن الكيان الصهيوني تجرّأ على توسيع طغيانه واستهداف دمشق مرة أخرى.
بدأت الجلبة في المكان وخلال دقائق سمعنا أصوات سيارات الإسعاف وهي تقترب، ثم بدأت الاتصالات التي تعد ولا تحصى حالما انتشر خبر مكان الغارة في محاولة للاطمئنان علينا.
وبدأت ثنائية الخوف والقلق تسيطر، فلا الخروج آمناً ولا البقاء مُطَمئناً.
يومها اتخذت القرار.. لن أستمر في عملي قرب أماكن مستهدفة لأنني شعرت بحجم الرعب الذي انتاب والديّ وهما يحاولان الاتصال بي ليطمئنا.
هكذا هو كيان الشيطان.. يقتلُ كل رغبة في الاستمرار
مهما كنتَ مقاوماً يضعك في النهاية بخانة اليَك لتختار بين الخوف والنجاة.. بين التضحية بنفسك والتضحية بكل شيء مقابل نفسك.
وفي إحدى المرات، كنت أشهد القصف على شاشة التلفاز حين استهدف الكيان مبنى وزارة الدفاع في منتصف العاصمة، وللمرة الأولى تكون حدّة المشهد موازية لما يحدث في غزة، خلال لحظات غارات متتالية سوّت المبنى بالأرض، في رسالة واضحة أنه قادر على استهداف مَن يشاء أينما يشاء وقتما يشاء وكيفما يشاء.
ناهيك عن الأيام التي تلت سقوط النظام السابق، إذ استمر الكيان بقصف الأماكن العسكرية في سورية مُجرِّداً إياها من كل وسائلها الدفاعية.
لمدة أسبوع لم يهدأ القصف، والأصوات المرعبة سيطرت على الأجواء وطالت الجميع في كل المحافظات دون استثناء، وكان المشهد مؤلماً للكرامة السورية، أن يُسلب حقك في الدفاع ورد الاعتداء للأبد ليس بقليل، كل ضربة كانت بمثابة شخص يهمس في أذني: "النصر للأقوى والأكثر شرّاً".
سبعة أيام عشنا فيها أهوالاً، لم ينم أحد، وكان صوت "الزنانة" لا يهدأ فوق رؤوسنا، كيف تأقلم سكان غزة مع هذا الشيء القبيح؟
كيف سلب هذا الكيان حق الناس بالحياة؟
كيف حوّل فكرة بقاء الناس تحت سقف المنزل دافئين مطمئنين إلى رعب حقيقي من انهيار السقف في لحظة فوق رؤوسهم؟
مَن يردع "زعراناً" يعربدون بخطط مجرّدة من الإنسانية ويتفننون بابتكار أساليب حصار وتجويع وقتل وتدمير على مرأى العالم أجمع؟
لماذا لم تنتهِ الحكاية حتى الآن ولم ينتصر الخير على الشر ويعيش الجميع في سعادة أبدية؟
وتدور وتدور الأفكار ونكتشف أنه ليس لنا إلا أن نبكي.. نبكي على قلة حيلتنا وعلى مآسينا وعلى بقعة جغرافية أصبحت نقمة على ساكنيها بسبب وجود خلية سرطانية فيها، تكبر كل يوم وتنتشر لتسلبنا حقنا في الحياة دون رحمة، سرطان لم ينجُ منه أحد.
