لم تعد البلاد ذاتها، ولا الذاكرة نفسها. تخونني هذه الأيام ذاكرتي، أفتش فيها عن ذاتي، تلك التي تركتها مع أصدقاء وعائلة وشوارع وأبنية. تخونني الذاكرة والمشاعر وأنا أحاول الشعور، مدركة في كل لحظة أنني مذنبة، يراقصني الذنب، يلوح بي من فكرة لأخرى، يغرقني في تخيلاتي، وفوق الذنب ذنب، ذنب النجاة مضاعف، نجاة من حيث جئت لصدفة جغرافية لعينة، ونجاة في مكان لا نعرف فيه سوى محاولات اللا-موت. ذنب الشعور المستحيل فهمه، أحاول أن ألطخني بالمأساة علّني أنجو من الذنب فقط، فماذا يعني أن أفهم الوجع؟
أعترف أنني فشلت بشكل ناجح جدًا في فهم قبح العالم، وأن كل آمالي الطائشة تبددت وتفتت، كما البلاد، وأنني لا زلت أفشل في فهم وجع طفل فقد فقدانه، كبر قبل أوانه، وسيعيش مع وجعه ما حيي. مخيف أنني لا أستطيع فهم الشعور، والمخيف أكثر هو أنه سيظل يراني مذنبةً، هو سيعيش مع فقده، وكلٌّ منا سيعيش مع ذنبه.
وعلى قائمة اعترافاتي أقول إن مخيلتي قد قُتلت، أو أنني قتلتها مفسحة المجال للنحيب. وجدت نفسي بعد عامين من الإبادة فارغةً من كل شيء، كل ما ظننته ممكنًا في لحظةِ طيشٍ بات اليوم ركامًا. ولا زلت أتجمد مكاني، لا مأوى لكل هذا الضياع.
أعود فأنفض الفكرة والوجع والسؤال في منفضتي التي فاض بها الغبار والركام، وكأن الفقد ذاته لم يعد ممكنًا. ظلت جملته ترن في أذني، لم أفهمها، كيف يفقد الإنسان قدرته على الفقدان؟ كيف نفقد نحن – كفلسطينيين – قدرةً كهذه؟ الآن فقط فهمت.
منية - الدوحة
This Content Isn't Available In English