Skip to Content

The moment the country changed: Women tell their stories after Assad

December 7, 2025 by
لميس - Lamees

شكَّل سقوط النظام السوري بتاريخ الثامن من ديسمبر للعام 2024، صدمةً للكثيرين، استغرق الناس وقتاً لفهم وإدراك تسارع الأحداث الدرامي، صاحب ذلك انفجار للكثير من المشاعر لدى السوريين والسوريات حول العالم بشكلٍ خاصّ، هذا الألم المتراكم لأعوام، واليأس الذي سيطر أو ربما كاد يفعل، على القلوب والعقول، نوثّق في هذا المقال جزءاً منه بين وقائع وأمنيات نساء/نسويات سوريات بعد سقوط النظام السوري.

نوثّق لأن التوثيق بحد ذاته أداة لمقاومة المحو والنسيان والتهميش، أجريت خلال العمل على هذا المقال مقابلات مع نساء/نسويات سوريات حقوقيّات يعملن وينشطن في المجال العام في مجالات يتقاطع فيها ما هو نسائي ونسوي[1] ضمن السياق السوري، أُجريت المقابلات خلال الأسبوع الأول من شهر مارس للعام  2025 أي بعد ثلاثة شهور من اللحظة المفصلية التي يتمحور حولها، وتُنشر الآن من باب التوثيق والتأريخ.

في هذا المقال ستقرأن/وتقرأون رؤيتهنّ للواقع قبل وبعد هذه اللحظة التاريخيّة، نختار هذه اللحظة كونها فارقة في تاريخ سوريا الحديث ورافقتها تغيُّرات ضخمة على مستويات عديدة وقضايا محوريّة، منها قضية المعتقلين والمختفين قسرياً، وتغيُّر ظروف الكثير من السوريين والسوريّات ليصبحوا قادرين.ات على الدخول إلى بلادهم للمرات الأولى بعد أعوام، التحالفات الإقليمية وشكل المنطقة الذي يُعاد تشكيله، بالإضافة إلى الكثير مما يخصّ السياسات الداخليّة والخارجيّة للبلاد التي ظلّت حتى لحظة كتابة هذا المقال في تغيُّر سريع ومستمرّ.

رغم إدراكنا وفهمنا لأهمية عدم مَحوَرة التركيز حول لحظة واحدة أدت إليها وأدت هي إلى الكثير من اللحظات الأخرى الهامة، لما في ذلك من خطورة وأثر في تشكيل السردية التاريخية السائدة، خطأ كهذا من الممكن أن يقودنا إلى طرح مثل "من يحرر يقرر" الذي يفترض أن الجماعة التي استولت على السلطة الآن لها الحق في الاستفراد بكل القرارات التي تحدد مصير البلاد، كأنّ اللحظة الحالية صارت من تلقاء نفسها دون ارتباط بكل ما قبلها ودون تأثير ومساهمة الكثيرين في حدوثها، عدا عن كون الواقع لا يتشكّل بتراكم اللحظات الفارقة بل أيضاً بكل العمل البطيء المتراكم الذي يُتجاهل عادةً عند سرد التاريخ.

 تناقشت والمشاركات في المقابلات عن شعورهنّ في لحظة سقوط النظام السوري، وما الذي اختلف في عملهنّ ونشاطهنّ قبل وبعد هذه اللحظة، ثم اختتمنا اللقاءات باستحضار الآمال والمخاوف معاً، قابلت رولا أسد صحفية وباحثة إعلامية نسوية و مؤسسة شريكة لشبكة الصحفيات السوريات، و هيمى اليوسفي، ناشطة وباحثة نسوية ومدافعة عن حقوق الإنسان، وبنان أبو زين الدين، المديرة التنفيذية لمجموعة تقاطعات والمهتمة ببناء المعرفة والتنظيم النسوي، وجمانة سيف حقوقية ونسوية سورية من مؤسِّسَات اللوبي النسوي السوري والحركة السياسية النسوية السورية، وزينة شهلا  صحفية وباحثة تعمل في مجال الصحافة المكتوبة.

عن شعور اللحظة الفارقة

انهمار الدموع بلا توقف، كان هو المشترك في تلك اللحظة.

تقول بنان: "عشر أيام اللي قبل لحظة السقوط كنت حتى خايفة إني أتابع الأخبار،  كان إني أرجع ينخلق هذا الأمل جواتي كثير، مخيف، مخيف، إنه يكون بس أمل، والأشياء ما تمشيش مثل ما إحنا تصوَّرنا، مثل اللحظة الأولى اللي نزلنا فيها على الشارع"

تستفزّ هذه اللحظات الذكريات لما يقارب الخمسة عشر عاماً، ضاقت فيها الحال على السوريين والسوريات، شتاتاً وقتلاً وتعذيباً وفقراً، وعلى البلاد، سوريا، التي تعرّضت لتدمير ممنهج طال جميع مفاصلها.

تكمل بنان:"اللي بتذكره إنه باللحظة اللي قريت فيها الخبر، حسيت حالي إني صرت خرسة ومش قادرة أحكي صوتي بطل يطلع وبس دموعي كانوا عم ينزلو،. كثير كثير بكيت، لأنه بعد 13 سنة بس استرجعت الوقت اللي كنا مبلشين فيه، وكيف كان حلمنا إنه فيه يكون عم بيخلص بسنتين من غير ما نكون عم ندفع هذا الثمن الكبير"

الأثمان التي دفعها الناس ولا زالوا، فاقت كل التوقعات والحسابات، فالمدة التي امتدّت عليها الأحداث[2] فتحت باباً للقهر والاستنزاف، وحين بدأت الأحداث تتصاعد من جديد في نهاية 2024 لم يكُن سقوط النظام واحداً من السيناريوهات التي خطرت على البال، بل لفّ القلق والخوف الجماهير المراقِبَة

تقول هيمى: "لحظة السقوط، هي أكيد لحظة كثير مهمة وكبيرة وصادمة، بس أنا من وقت بداية المعارك على مدينة حلب، من نهايات نوفمبر. وأنا كل الوقت متسمّرة أمام التلفزيون أو الأخبار أو على فيسبوك، ما في روتين طبيعي، بس كان فيه خوف كتير كبير، ولا مرة من السنين الأخيرة كنت متخيلة إنه أنا ممكن أشهد سقوط النظام، بس أنا بتذكر كنت كل الوقت عم ببكي، أنا ما بتذكر يعني إنه كان في فرح، كان في بكاء هائل، كان في تذكر لكل الناس اللي كنت بتمنى إنه يكونوا موجودين معنا بهذه اللحظة، في ناس كتير هيك بلشت صورهم تطلع ب ببالي بلحظتها"

تتشابك مشاعر بنان وهيمى في تلك اللحظة ما يكشف جانبًا مهمًا من تجربة الانخراط في الثورة لدى السوريّات، إذ تحضر مشاعر الغياب والفقد والتأمل في الثمن المدفوع. والتداخل بين الأمل والخسارة، الذي يجعل لحظات يُفترض أن تكون انتصاراً تتحول إلى محطات ثقيلة بالمراجعة والتساؤل، خاصةً لمن خضن مسارات مُعارضة ودفعن كلفة سياسية وعاطفية كبيرة.

تخبرنا بنان عن رفيقات تشاركت معهنّ التنظيم في حلب في بدايات الثورة، ووجوههنّ التي تراءت لها في تلك اللحظة، عن اللواتي استطاعت أن تكلمهنّ عبر الهاتف فوراً، وعن أخريات فقدت التواصل معهنّ ولم تعد تعرف أخبارهن في خضم تصاعد الأحداث وتغيرها خلال السنوات الطويلة الصعبة الماضية، وتتساءل:" ليش بعد 13 سنة عم بعيش هاي اللحظة وأنا مش قادرة أكون جوا بسوريا أو عم بختار؟ ليش في هالقد أطفال دفعوا ثمن هاللحظة؟ كان دائماً لإلي في شعور بالذنب إنه أنا مشيت بهذا الخيار، مش ندم ولو بنرجع مية سنة لورا، برجع بقول إنه هذا النظام بائد ولازم يكون عم يتم إسقاطه، ولازم يكون في محاسبة إله، بس الثمن كان كثير، كثير كبير"

هذه المعضلة التي ترافق الكثيرين ممن كانوا جزءاً ممن شاركوا ونظموا ضمن حقبة "الربيع العربي"، إذ لا زال الكثيرون يحملون أعباء التداعيات التي آلت إليها هذه الفترة، والأحبة الذين فقدوهمن والصدمات التي تعرضوا لها والأثمان التي كان عليهم دفعها، تخبرنا جمانة عن أعباء أخرى يحملها المنخرطون والمنخرطات في مسارات البحث عن العدالة والمساءلة والمحاسبة للمتورطين في الجرائم المرتكبة طوال هذه الحقبة: " أصابتني نوبة بكاء شديد، بالعادة أنا مو من الناس إللي بتبكي كتير، لأنه بظلّ إللي مرينا فيه، يمكن لازم نضل طول الوقت عم نبكي كسوريين، وخصوصاً إنه أنا بشتغل بالتحقيق بهي الجرائم، فأنا على تواصل مباشر مع  الناجين والناجيات، الي بخلي من الصعب إنه حافظ على توازن، فكانت مجموعة مشاعر مختلطة من الفرح المشوب بالقهر إللي مخزَّن ومتراكم"

تخبرنا زينة عن خوف وترقب في منزلها، كونها تسكن دمشق، لم يخرجها منه سوى رؤية الخبر بعينها مُذاعاً: " مشهد كثير غريب، تماثيل حافظ الأسد مكسَّرة[3]، الجنود تاركين بدلاتهم هربانين، يعني كثير كان شيء سريالي، أعتقد يعني بدنا لسه حتى سنين نحن نستوعب هذا التغيير اللي صار بالنسبة لنا نحن الي عايشين بالبلد الحياة كلها تغيرت كثير"

تحدثنا زينة عن الستار الذي انزاح، عمّا انكشف، الكثير من المشاكل التي كانت مخبأة أو متَجاهَلة وظهرت بوضوح بعد السقوط: "طبعا يعني بعد ثلاث شهور أكيد شوي يختلف المشهد، لأنه بلش أول شيء كل المصايب الموجودة بالبلد تطلع، يعني في عندك جورة، مستنقع، وانكشف هذا المستنقع، كل الوقت نحنا عم نخبي شو عنا مشاكل والنظام ما كان عم يسمح أصلا كثير أشياء ينحكى عنها، هلق فجأة كله صار فيكي تشوفيه، مستوى الدمار، مستوى التهجير، القتل المعتقلين، المغيبين، مستوى الفساد بالمؤسسات الحكومية، تفتت المجتمع "

أما رولا التي كانت بعيدةً جغرافياً، تحضر مؤتمراً في شرق آسيا، فقد تحفّزت لديها الكثير من الأسئلة عن البيت والانتماء والعودة، هل تعود إلى أمستردام، أم إلى سوريا، تقول: " بدي أرجع لوين؟ هل رجعتي على أمستردام؟ عبيتي؟ وين أنا بعتبره بيتي مؤخرا؟ ولا خلص؟ هذا ما عاد بيتي. لازم أرجع على هولندا، ولا على سوريا؟" ليقودها هذا التساؤل إلى اتخاذ قرار خوض رحلة العودة الأولى بعد الهروب إلى سوريا [4].

إن ما تعيشه النساء من تجارب شخصية، خاصةً تلك المرتبطة بالقمع والفقد والنفي والحرمان من الحقوق، هو انعكاسٌ مباشرٌ لبُنى سياسية واجتماعية أوسع، ولا يمكن عزله عنها أو تحييده، إن مشاعر الألم أو الانهيار أو حتى الفرح والانتصار التي ترافقت مع سقوط النظام لا تُفهم كمشاعر شخصية فقط، بل كبوابة لفهم أثر القمع والسياسات السلطوية على الجسد والعلاقات والانتماء والهوية.

التجليات العاطفية لهذا الحدث المفصلي تنعكس على الحراك النسوي/النسائي السوري نفسه، فهناك تحولات في لغة الخطاب وأولويات العمل والعلاقة مع الوطن والمنفى، وفي مفهوم العودة وإعادة التفكير بالتحالفات والعلاقات. تخبرنا المشاركات في هذا المقال عن مشاعر فقدان اليقين، لكن أيضاً عن جرأة جديدة في الطرح، عن الرغبة بإعادة ترتيب الأولويات، وخلق مساحات تستوعب التعدد والتجربة الشخصية، بعد أن كانت السياسة، كما هي في المنظومة الأبويّة، تفترض الحياد والصلابة والتجريد.

هكذا تصبح المشاعر مدخلاً لفهم التغيرات العميقة التي حصلت، ويصبح الإصغاء للمشاعر وتوثيقها، ليس انحرافاً عن "الموضوعي" أو "السياسي"، بل فعل مقاومة وتحليل نسوي يُعيد الاعتبار لتجارب النساء بوصفها مصدرًا للمعرفة والشرعية والفعل السياسي.

حراك نسوي/ نسائي سوري

تخبرنا رولا عن أوجه تبدو مختلفة لكنها تتشابه حين نتحدث عن النساء وعملهنّ وأوضاعهنّ في سوريا، ففي السابق كانت هناك المنظمات النسائية المحدودة عملاً وظهوراً وخطاباً بمساحاتٍ معينة وخطوطٍ حمراء، إذ يُسمح لها بالعمل ضمن أُطُر ضيقة مثلها مثل أي قوى سياسية أخرى، ليتغير هذا الشكل لاحقاً وتنفتح طاقات مختلفة للعمل بعد الثورة، فيبدأ بالظهور فهم وتمييز للفرق بين ما هو نسائي وما هو نسوي على مستوى العمل والخطاب أيضاً، وتتوسع قائمة القضايا التي تعمل عليها، بينما ظلّت المخاطر والتحديات ماثلة، سواءً لتلك المجموعات التي ظلّت تحاول في الداخل أو التي أسست نفسها وعملها من خارج سوريا، اليوم، تتراءى لنا ظلال خطوط حمراء جديدة[5] آتية من إدلب حيث حكمت الهيئة لسنوات قبل أن تعلن نفسها رئاسةً جديدةً لسوريا.

بدءاً بالتعريف، تعتقد رولا أن " الحراك النسوي السوري اليوم موجودٌ داخل وخارج سوريا، ويتَمَظهر بشكلين إحداهما المؤسساتي الذي يأخذ شكل منظّمات ومجموعات مسجّلة، والآخر قاعدي شعبي كالموجود على الأرض في سوريا ومخيمات اللجوء مثلاً"، كما تخبرنا هيمى، بأنّ أشكال وآليات التنظيم ضمن هذا الحراك تشهد تغيراً كبيراً اليوم، فجزءٌ كبيرٌ من الخوف من التواجد والظهور بدأ ينزاح، بينما تظلّ المخاوف حول تطوّر ذلك مستقبلاً وظهور مخاوف جديدة تعيد من لامسوا النور إلى العمل من الظل مجدداً، تقول "تواصلنا مع بعض طوال كل السنوات الماضية بس عن طريق الشاشات، جزء كبير من الصحفيات إللي أنا مشتغلة معهن، مثلا عبر السنين أنا ماني شايفة ولا وحدة منهن. بشكل شخصي، لا هن كان عندهن قدرة إنه يسافروا بره سوريا، ولا أنا كان عندي القدرة إنه أكون جوا"

بشكل أساسي التغير الحاصل اليوم هو على مستوى التواصل والتواجد على الأرض، ما يجعله يحمل في طياته منحاً للقوة والجرأة لمواجهة نزع الشرعية والاتهام الموجّه للنسويات العاملات من خارج البلاد، إن القدرة على العمل من الداخل اليوم تتيح مساحة أكبر لتقييم المخاطر وتحديد الطرق الأكثر واقعية للتعامل معها، كما تضيف عامل القرب المادي والمعنوي من النساء السوريات هناك، ما يعني تحديداً أدق لمشاكلهنّ وللأولويات التي يعنيهنّ العمل عليها، كما تضيف هيمى:" إنه نكون عم نقول إنه نحنا من هون من البلد نفسها، من المدينة نفسها، من المنطقة نفسها، عم نطالب بنفس المطالب، ما كنا برا، لأنه كان نحنا بدنا نكون موجودات في الخارج، ولكن لأنه كنا مضطرات حفاظًا على حياتنا إنه ما نكون بداخل البلد"

تعقب جمانة على ذلك فتقول أن النساء كنَّ عصباً أساسياً في بدايات التظاهر والتنسيق والتحرك، لكن بدء التسليح بدأ يشكل خطراً جعل الكثيرات منهنّ، وعلى مستوى العائلات لا الأفراد، ينسحبون ويضطرون إلى مغادرةالبلاد، مما نأى بالنساء عن الساحة السياسية والمشاركة الفعّالة، عملت جمانة خارج البلاد وانخرطت في الكثير من أنشطة المجتمع المدني، كما تقول بأن كثيرات من النساء توجّهن نحو هذا العمل، حيث تمحورت جهودهنّ حول الاستجابة والمساعدات الإنسانية، لكنها أدركت لاحقاً أنه رغم كون هذا العمل واجباً أخلاقياً هاماً، إلا أن التوجيه المكثّف نحوه، وسلب الخيارات الأخرى غيره، كان محاولة أخرى لنزع البعد السياسي لعمل النساء وتفريغه من المعنى والأثر، وتحويل جهودهنّ عن مسارها المفترض.

هذه التراكُمات وغيرها دفعت بالنساء بعيداً عن دوائر التأثير السياسي، واليوم وخلال فترة قصيرة من ترؤس الحكام الجدد، نرى نتائج ذلك، إذ إن طريقتهم في التعامل مع  تواجُد وعمل النساء في المجال العام، تقابل باستخدام التجاهل كأداة أساسية لتحجيمهنّ، وهو ما تصفه رولا بأنه أكثر ثقلاً من التسكيت والتخريس.

 تخبرنا رولا أن محاولات اختبار المياه الراكدة في هذه الفترة قد تمثّلت في خطابين أساسيين، أولهما بتصريح عبيدة أرناؤوط والآخر تصريح لعائشة الدبس[6] قدمته بكل وضوح ومُباشرة بعد أن ظلّ المسؤولون الذين بتوأوا المنصات الإعلامية يتوارَون خلف إجابات دبلوماسية، فيتحدّث الأول[7] عن تكوين وطبيعة للمرأة لا تخوّلها لاستلام مناصب معينة مثل وزارة الدفاع، بينما تصرّح الأخرى حرفياً بأنها لن تفتح المجال لمن يختلف معها بالفكر، ويأتي التعليق على هذه التصريحات خافتاً وضعيفاً من داخل سوريا، بينما يندد ويعترض بكثافة أكبر السوريون والسوريات من الخارج، وهو ما تُعزيه رولا لغرق الناس في داخل البلاد في سعي محموم ومتعب وراء لقمة العيش فتقول: "الناس خارج البلد عندهم رفاهية التفاعل والانخراط بمواضيع سياسية من هذا النوع، أكثر من جوات البلد" يبدو أن نقاش الفروقات بين من هم بالداخل والخارج سيظلّ دائراً، تحديداً حين يأتي الأمر لرفع أو خفض سقف التوقعات والمطالب من الحكام الجدد، فما الذي سيؤول إليه حال النساء وما المكان الذي سيسعهنّ في سوريا اليوم، وأين سيكون موقعهنّ في الصورة[8]؟

الفترة القادمة - الآمال والمخاوف

الإنهاك الذي يمنع الناس من التفاعل، هو ذاته الذي تتخوف هيمى من أنه سيدفع بسقف التوقعات للانخفاض، فمهما سمعت عن الفقر والبرد والأوضاع الصعبة التي يعانيها الناس داخل سوريا، إلا أنها استطاعت أن تشعر فعلاً بالمعنى الحقيقي لذلك حين زارت سوريا وتنقلت وعاشت بين جدران البيوت الباردة التي يشقى سكانها ليجدوا رغيف يومهم، وتفاجأت بمن كانوا يحملون لواء الثورة يقولون: " كتر خيرهم، ما صار دم، بدنا نطول بالنا ونصبر عليهن" وهو ما لا تتفق معه، ويخيفها على عدة مستويات، فتقول هيمى: " أنا بيخوفني انخفاض سقف  توقعاتنا من إنه نحنا كان بدنا ديمقراطية وتداول سلطة وتشكيل أحزاب وتعدد وجهات نظر، وفجأة تصير نتيجة للوضع المأساوي، والكارثة إنه خلص بيكفي يأمنوا مي وكهرباء وخبز"

ما يعيدنا إلى مآلات الحاصل التي تؤرّق المنخرطين ومن انخرطوا مسبقاً فيه، فهيمى تفكر اليوم في الشباب الذين يتساءلون عن فرص التغيير والاعتراض والبناء في سوريا اليوم، ويقلقها أن يكون الجيل الأكبر الذي ساهم وأدى دوراً في الصورة التي نعايشها اليوم، آيلاً للسكوت والتسكيت وخفض سقف التوقعات إلى هذا الحد، ما يعني تجدد الخذلان بين الأجيال، وتقليل فرص العمل والأمل القليلة المتاحة.

تؤكد زينة على  هذين النقيضين اللذين يتلاصقان تلاصق الأمل والألم في هذه الصورة: " سقف طموحاتنا كتير عالي، و بنفس الوقت للأسف التحديات هائلة، نحن بنحكي عن بلد تحت الصفر بحاجة إنه يرجع ينبني فيه كل شيء من أول وجديد."

تقول رولا أن الأثمان التي دفعها كل السوريون ليُصار إلى تغيير ما، أتت لتقطف ثمارها الآن ميليشيا مسلحة إسلامية مشهود لها بعُنفها، في وقت تورّثت فيه البلد على دمار كبير واستنزاف إلى آخر قطرة، ما يطرح سؤالاً كبيراً، ماذا يمكننا أن نفعل تجاه هذا الحاضر الذي لدينا اليوم؟ سؤال حقيقي مع نية بالفعل، لكنه مشوب أيضاً بالإحباط والأسى والحيرة.

سوريا جزء من المنطقة، والنساء جزء من مجتمعاتهن

ترى بنان أن ما يحصل اليوم هو مجرد تغير في أحجار الشطرنج، أكثر من أن يعدّ نجاحاً للثورة، وأن الثورة لم تنته، ولا بدّ لها من امتداد، بينما يقلقها الكثير بشأن القادم، تُقلقها الطائفية التي تؤجَّج في كل لحظة يمكن استغلالها، يقلقها التوجُّه نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتغلغل والتدخّل المالي لدول مجاورة وتأثيراته على سيادة سوريا ومستقبلها، وكذلك التفاعل مع ملفات هامّة كالتحقيق في الجرائم الحاصلة في السجون والتهاوُن في التعامل مع الملفات والأدلة التي كانت موجودة فيها.

في هذا السياق تنفتح الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى تأمل أكثر من حاجتها للإجابة، عن معنى الثورية والناشطية وسبلها، وكيفية استحكام المنظومات القمعية وقدرتها على هدم الجهود وتحويل مساراتها، واستغلالها للأكثر هشاشةً وهامشيةً، وفتكها بهمن، وأخرى حول أهمية التعلم والتأمل وتكرار السعي والبحث المستدام المستمر عن بدائل وطرق جديدة، لأن اليأس لا يورث إلا المزيد من الألم.

في ظلّ ما نشهده من إبادة في غزة وتقسيم لسوريا وتطبيع وتوجهات للتطبيع مع رأس الإبادة والاستعمار والإمبريالية في المنطقة من دول عديدة، يفرض سؤال المشروع البديل الذي يشمل ويحرر المنطقة ويتجاوز حدود الممكن والمجرّب، نفسه علينا، فنحن لسنا بصدد البحث عن عدالة للنساء فقط، لكننا كمجتمعات مهمّشة عالمياً، وكفئات مهمّشة أكثر داخل مجتمعاتها، نتعرض لطبقات وطبقات من الظلم تتجاوز ما يمكن احتماله، وتفرض ألا يكون المقابل لها هو الصمت أو الهرب أو اليأس. 

1: يُشار إلى ما كل هو نشاط أو فعل مرتبط بشكل خاص بالنساء ب"النسائي"، مثلاً (جمعية نسائية، مشروع نسائي،..الخ)، بينما يُشار بال"نسوي" إلى ما يحمل ويعبر عن الأيديولوجيا والفكر والتوجه السياسي النسوي، وهو ليس مرتبطاً بالنساء حصراً ويتجاوز الجندر، ليس كل ما هو نسائي نسوي ولا العكس.  

2: استخدام كلمة أحداث بحدّ ذاته ربما يكون إشكالياً، نحن نتحدث عن مصائب الناس، موتهم بكل الطرق، وتشردهم وانتكابهم، عن الحروب الأهلية والطائفية التي تنعكس تحريضاً وقتلاً، ربما يروح نقاش الكلمات إلى مساحاتٍ أخرى، لكنني أود أن أشارككَِ أنني فكرت واحترت كثيراً في الكلمات، أولاً في مدى عكسها لكل الوجع وراءها وضمنها، وثانياً فيما تقوله حول وعينا، فكرت في "تحرر" سوريا حين سقط النظام، وب"سقوط" النظام حين "هرب" الأسد، فكرت في وصفٍ للمجازر والموت والغرق والحرق والفوضى حين توصف ب"أحداث" و"أزمة" و"نزاع" تماماً كما فكرت في "إبادة" لتسمية كل ما يحدث في غزة، قصور اللغة ومحدوديتها خانق في كثير من الأحيان، لكن المخيف حين تُختار وتنتشر تسمية ما تنعكس في عمق الوعي الجمعي أو تعكسه كما هو، فترينا تشوهاته بصورة مباشرة.

3: سوريون يسقطون تماثيل حافظ الأسد في عدة مدن سورية

4: سوريا... العودة ممكنة، عن زيارة إلى دمشق والساحل السوري

5: كيف نفهم هيئة تحرير الشام كحكومةٍ انتقاليةٍ من وجهة نظر ناشطات ريف حلب الغربي؟

6: تصريحات مسؤولة شؤون المرأة في الإدارة السورية الجديدة تثير عاصفة من الجدل

7: تصريحات عبيدة أرناؤوط

8: الصورة الغائبة

This Content Isn't Available In English


Share this post