كنتُ أحبو نحو الحياة تحت سقف الموت الكافر،
هذا الموت الذي لم يكن عابرًا في طريق العمر ومسار حياتي،
فقد كان يغزو كلّ تفاصيل الحياة فيَّ،
يُهشِّمها ويمزِّقها إربًا إربًا.
كنتُ في قيامة الإبادة عامين، وما زلتُ.
تشقَّقتْ في الروح ندوبٌ نزفتْ قهرًا من الفقد وتوالي مآسيه،
امتحنني الخوف وتخدَّر قلبي تحت وطأته.
لقد بدأتْ فصول الفقد تفتح رياح جهنّمها نحوي في تلك الإبادة، حينما اغتالتْ أبي عنوة.
لم تكن الإبادة تقذف الفقد نحوي وتغتالني من خلاله فحسب،
بل أيضًا كانت دوماً تُصوِّب قذائف موتها المتراشقة نحونا، والتي لم تتوقّف لأجزاءٍ من الثانية، تُصوِّب قتلها علنًا نحونا؛
لتنزعنا منّا ومن كلّ شيءٍ كنّا فيه، ونسمّيه وطنًا.
بدأ الفقد بأبي، ومرَّغتني الإبادة تحت أنيابها تطحن قلبي تحت رحى المقتلة المصوَّبة نحونا منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023،
وانتزعته من بيننا بشراسةٍ، ليس كمن يفقد الإنسان الطبيعيُّ من يحبّ تحت ظروفٍ طبيعية ويتلقّى الخبر بـ«كلّ من عليها فانٍ»،
أو بالأحرى بطريقةٍ تليق بمن نفقدهم من الأحباب.
لم أكن أعلم أنّ أبي سيكفّنه الموت في رزنامة الإبادة المسعورة.
فقدتُ أبي بعد أربعة أشهرٍ وثلاثة أيامٍ من قيامة الإبادة، ولم أودّعه كما يليق به.
فقدته تحت لوعة التعذيب الذي رأيتُه بأمّ عيني، ولم أحرّره من معقل التعذيب.
عرَّوه وقيَّدوه، ثم استجوبوه، وهو لم يحمل من ذاكرة أعوامه السبعِ وسبعين أيّ تهمةٍ إلّا أنّه وُلِد وكَبر في غزّة.
تُهمته أنّه من غزّة، وبسببها أزهقوا روحه أمامنا عنوةً بضربٍ مبرّح.
رافقني هذا الوجع في صراخه الذي لن ينطفئ فيَّ ما حييتُ.
تشوّهت ذاكرتي، وبقيتُ أنتحب صامتةً بحزنٍ قاتم.
لم يكن هناك متّسعٌ للحزن الواسع، ولا للبكاء بصوتٍ حيّ، ولا للاحتضان حتى.
في الإبادة لا وقت لتتفقد ذاتك، ولا حزنك، ولا حنينك، ولا شوقك.
عليك أن تُخرسهم بما تبقّى لك من قوّةٍ لكي تنجو،
فالطريق نحو النجاة تحت سماء الإبادة مكلف،
ولا يُعطيك رفاهية الرثاء أو العزاء.
أجل، أصبح أن تتفقد ذاتك تحت نصل الموت الكافر في لهيب الإبادة رفاهية.
ببساطةٍ لا وقت لكلّ شيءٍ إلّا أن تحاول أن تبقى على قيد الحياة وأنت تركض بأقصى سرعتك من بنادقهم المصوَّبة نحوك.
فمنذ أن شرعنوا الحرب علينا وبدأت نكبة الإبادة،
كنتُ وعائلتي ننزح من مكانٍ إلى آخر نحاول النجاة،
وأبي فقدتُه في إحدى محاولات النجاة في النزوح حينما فشلنا وتحاصرنا واقتادونا.
وفي كلّ نزوحٍ كان الحزن يكبر في القلب دون أن يتلاشى، والفقد يبتلعني،
وأنا لا أملك سوى الأنين والتذكّر كيف رحل أبي أمام عيني ولم أنقذه.
كنتُ أعتقد حينها أنّ فقده هو آخر محطّات انكساري،
وأنّه لن يقوى حزنٌ آخر على فتح دروبٍ أخرى في قلبي،
كأنّه مأتمي الأول والأخير،
ولن يعزّيني حزنٌ آخر من بعده، لأنّ أب القلب قد خطفته الإبادة.
لكن مع مرور الأيام امتحنني فقدٌ آخر،
وسقطت قاعدة الحزن الأول والأخير،
وجثوتُ راكعةً لحزنٍ آخر،
حينما غدا البيتُ ركامًا، فلم يَسلَم هو الآخر من رحى المقتلة.
البيتُ الذي كنتُ أظنّ أنّني سأجتمع بذكريات والدي فيه طالما في العمر حياة،
سأظلّ أُحصّنه من الفراق بصورته، وبما تبقّى منه، إن لم يكن كلّه، رغم غياب جسده عنه،
فالروح تنام في موطنها دومًا، ولا تُودّع من افترقتَ عنهم جسدًا.
فكيف تسقط قلعةُ أبي من بعده؟!
كيف أُداوي فقده في بيته وبيتنا الذي بناه لنا لنكون عائلةً متكاملة؟
حطّمته الإبادة وأخذت معها كلَّ الدفء، صورنا، هندامنا، غرفنا، مطبخنا، حمّامنا، مضيفتنا، ذكرياتنا.
كلّ ذلك بقي تحت الركام يُناجي أن ننقذه مثلنا تمامًا.
لم تكن تلك التفاصيل ولا الأماكن وحدها هي ما دمّرته الإبادة وجعلتها ركامًا،
بل أرواحنا معها غدت ركامًا هي الأخرى.
بكيتُ دهرًا على هذين الفقدين، وظننتُ أنّ فقدًا آخر لن يمتحنني،
فإذا غاب عمودُ البيت وبيته معه، فلمن سأفتح عزاء الفقد مرّةً أخرى؟
على ماذا سأُجدّد بيعة الحزن والتيه في قتامة مشهده وألمه؟
فهما الأحبّ والأقرب إلى قلبي، أبي والبيت، ومن بعدهما يهون كلّ فقدٍ وألمٍ وحزنٍ وتيهٍ حتى.
لكن يبدو أنّ لفصول الفقد رأيًا آخر.
ففي أيلول/سبتمبر 2025، والإبادة تقترب من عامها الثاني،
اغتالني الفقد الأكبر، وأظنّه الأكبر حقًّا، حينما أعلنوا أنّ علينا مغادرة المدينة "غزّة" والاتجاه جنوب القطاع.
هنا وقفتُ أُغلق كلّ فصول حزني الأول والثاني والثالث والرابع...
ووجدتُهم أمام فقد المدينة يمكن لهم أن يتعافوا،
لكن فقد المدينة مثل الثقب الأسود،
سيبتلعك فيه إلى الأبد، ولن تنجو من فقده ما حييت.
المدينة التي أحيتني وأماتتني، لكنّها لم تتخلَّ يومًا عن نفخ الروح فيَّ.
المدينة التي عنقاؤها رمزها، تُحيي ولا تُميت،
ومن رمادها تنفخ الروح للحياة.
دفعتني من الركام إلى البناء، حينما هزمتني الإبادة أفسحت لي أن أرى الحياة فيها.
رغم كلّ متاريس الموت المصوَّبة نحونا سويًّا، أنا وهي وكلّنا،
كانت دومًا تجعلني أجد ألف سببٍ تحت سمائها لأبقى فيها، لكي لا أودّعها.
كانت دومًا، وهي النازفة، تمنحني الحبّ والدفء.
كلّ القطاع مدن قلبي، لكن غزّة مدينته النابضة، وبفقدها لا قيمة للحياة.
هنا التضادّ أعلن معركته معي.
كيف لمن يرى الموت كلَّه في حضن موطنه ومدينته،
من عاش فيها الفقد، فقدَ أغلى ما يملك من أحبابه وذكرياته وحتى مستقبله،
من عاش فيها النزوح والخوف والقهر واستمرارية جهنّم الموت،
أن يظلّ يُناجيها أن تُبقيه فيها؟!
لكن لم تكن مدينتي من أطلقت ذلك الموت نحوي،
فلماذا أتخلّى عنها؟
لماذا على الفقد هنا أن يتملّكني، أن يجعلني أفتح فصلًا جديدًا معه، أغرق في آثامه مرّةً تلو أخرى؟
هنا أعلنتُ أنّ لا قيمة للنجاة إذا فقدتُ غزّة،
وبقيتُ فيها معلنةً أنّ النجاة لا تكون إلّا فيها،
وأنّ رحى المقتلة لا يمكن أن تفوز على من أدمنها.
سيظلّ هو ببقائه عنقاؤها، وستظلّ هي تُنجيه من الموت الآثم.
وسينجو هو، وستسقط ترسانة الإبادة.
ستُداوي المدينة فقدي وأوجاعي فيها، هي الداء والدواء،
لكن ترياقها خيرٌ من فراقها.
وإلى هنا بقيتُ فيها لكي أُداوي كلّ مآتم أحزاني فيها،
وحدها من تُتقن عزائي ورثائي.
وحينما لاح بصيصُ أملٍ بوقف المقتلة ورحى موتها،
وأنّ هناك مساعيَ حقيقيةً تفاوضيّة تنهي معها فصول الموت الجاحد،
أعلنتُ حينها، وأنا فيها، أنّ اليوم الذي لم أتخلَّ عنها ولم أغادرها نزوحًا نحو الجنوب
تحت أوامر الاحتلال التي أجبرت كلَّ من في المدينة أن يغادرها مكرهًا وبالقوّة،
قد كان اليوم الذي عدتُ فيه للحياة مرّةً أخرى، كأنّني وُلدتُ للتوّ.
فهل كان كلّ الفقد السابق وَهمًا؟ أم أنّ المدينة ترياق الحزن والفقد؟
ببساطةٍ أقلّ من تعقيد اللغة:
في حضنِ غزّة وحدها، للروح عزاؤها، وللحياة معنى البقاء.
والسلام.
نورهان أسعد - غزة، فلسطين المحتلة
This Content Isn't Available In English