Skip to Content

Goodbye, stranger

Redefining loss and mourning in the digital age
November 22, 2025 by
نوران المرصفي - Nouran Al Marsafi

أستيقظُ في منتصفِ الليلِ مذعورةً، تملأُ عينيَّ الدموع. ليس حلمًا مزعجًا (فأنا لا أحلم). إنه اضطرابُ النوم، روتيني الجديد. أمدّ يدي إلى كوبِ الماءِ بجواري، فيهمس عقلي: "كيف تشربين لتروي عطشك، وأنتِ تعلمين أن مياه الشربِ هناك نادرة، ومسمّمة إن وُجدت؟"  فأمسكُ بهاتفي المحمول (كم أتمنى أن نخسر كلَّ هذا الاتصالِ الرقميِّ المتمثّلِ فيك). تُزعجني إضاءةُ الشاشة، فأُغمضُ عيني وأفكر: "على الأقل لديَّ كهرباء... لا أعلم كيف كانت ليلةُ بيسان؟" أفتح تطبيق «إنستغرام» لأتأكد أن الاحتلالَ لم يسرقهم منّي في ساعاتِ النوم: أنس، بيسان، هند، صالح، عبود، وغيرهم كثير... أسماءُ غرباء.  

أبدأ بالتساؤل عن الغرباء: إلى أيِّ مدى يظلُّ الغريبُ غريبًا؟ هل لهذا علاقةٌ بمدةٍ زمنيةٍ محددة؟ ربما لم يكن الغريبُ غريبًا قط، ربما يجمعُنا فراغٌ لا أعلمُه، أو ربما نحنُ غرباءُ عن أنفسنا. يستمرُّ سؤالُ الغرباء في ملاحقتي، فأظلُّ أتساءل: ما هي العلاقةُ الوطيدة التي تربطني بأشخاصٍ لم ولن أرَهم؟". يستدرجني الظنُّ لأصدّقَ أن لا غرباءَ في الحقيقة، لا أشخاصَ ولا مشاعر، بل نحنُ أسرى لإطارٍ زمنيٍّ مجهول. لقد اختبرتُ هذا الإحساسَ من قبل؛ جئتُ إلى هذه الحياةِ مسبقًا، وأعرفُ جيدًا أين أنا، وما الذي أفعل، أو ما عليَّ فعله... فقد فعلتُه من قبل، وفشلتُ." قد يخدعني هذا اليقينُ نفسه، فيدفعني لأبادر بتحويلِ الغرباءِ إلى معارف، ثم إلى أصدقاء، ثم أفقدهم وأرثيهم، ثم أبادرُ بملءِ هذا الفراغِ بغرباءَ جددٍ في محاولةِ الاستمرارِ معي في هذه التجربة. كأن الغربة نفسها تعيد إنتاجنا عبر الآخرين.

اختلف هذا النمط في العامين الأخيرين، (أو بالأخص منذ 7 أكتوبر 2023) على مدار عامين من مشاهدة الإبادة عبر الشاشات، كوّنتُ أنا وكثيرٌ من الأصدقاء علاقةَ قربٍ وصِلةٍ مع عددٍ من المراسلين والصحفيين الفلسطينيين. أعلم أن الحياةَ لن تمنحنا فرصةَ اللقاء، لكن ذلك لم يمنعني من أن أستثمر كثيرًا من مشاعري في هذه العلاقة، أن أصنع أصدقاء من الغرباء. أتذكّر كيف بدأت بتكوين علاقات صداقةٍ مع غرباءَ التقيتُهم في الجامعة صدفةً أو حتى في يومٍ كنتُ أبكي فيه داخل حمّام العمل، أتذكّر أيضًا كيف بدأتُ صداقاتي الافتراضية مع كثيرٍ من الوجوه الفلسطينية، وكيف فقدتُهم. أذكرُ إحساسي بالعجز والحزن والغضب، وأعلم أنني ما زلتُ أرثي من رحل منهم. أتمنى ألا يأخذهم الاحتلال بمنتهى البرود والوحشية. لكنني أنسى دائمًا أن عليَّ أن أترك الأمرَ للحياة نفسها؛ فلعلها وحدها تعرف ما كان مقدّرًا لتلك العلاقات الافتراضية. ولعلها تعلم متى تنقطع تلك العلاقات التي نسجناها خلف الشاشات؟، وكأننا ما زلنا محبوسين في تلك اللحظة ذاتها، لا نستطيع الفكاك منها.

 في هذا الأسر، أحاول أن أفهم: كيف أصبح الفقد مرتبطًا بشاشة؟ وكيف له أن يخلق أنواعًا من القرابة والحزن؟ وماذا يعني الرثاء حين يكون رثاءً لغرباء نحفظ وجوههم أكثر من وجوه أقربائنا؟ أَلجأُ إلى الغرباء، لعلّنا نكتشف معًا سبب كلِّ هذا، ونحاول إصلاحه. ربما يكون هذا الإحساسُ بأنني جئتُ إلى هذه الحياة مسبقًا وأعرفُ جيدًا كيف يفشل المرء، ليس مجردَ شعورٍ شخصي أو ايماناً ميتافيزيقيًا، أظنها ذاكرةً متوارثة. تُورَّثُ العداوةُ مع المشروع الصهيوني جيلًا بعد جيل، نشأت وأنا أشاهدُ حكايات الغريبِ عن المقاومةِ الشعبيةِ في السويس ومدنِ القنال في مصر، عن شهداءَ لم أراهم لكن قلبي يعرفهم، تُورَّثُ المشاعرُ عن جدتي التي هُجرت إثر العدوان، فمارست الغربة الجغرافية عن دارها.  ذلك الإحساسُ العميق بالعجز والألم، والإصرارُ الغامض الذي لا أعرفُ مصدره، ربما هو نفسُ ما شعرَ به أجدادُي في السويس¹، وهو نفسُه ما يشعرُ به الغزيون اليوم. نحن لا نرثُ الأرضَ والحكاياتِ فقط، بل نرثُ المشاعرَ والندوبَ. فحزني عليهم ليس حزني وحدي، وغضبهم ليس غضبهم وحدهم. إنه دَينٌ عاطفيٌّ متراكمٌ عبر الأجيال، وثأرٌ وجدانيٌّ لن يكتملَ إلا بتحرير الأرضِ وردِّ المظالم. في هذا السياق، تصيرُ علاقتي بالغريب الفلسطيني أكثرَ من مجرد تضامنٍ؛ إنها لقاءٌ ممتد بين ذاكرة متوارثة، وواقع معًا، لكننا نتشارك خطوط الدفاع في معركة التحرر من سردية الإبادة، سواء كانت بالرصاص أو بالتهميش أو بتحويل آلامنا إلى بياناتٍ تُباع في سوق الرأسمالية المراقَبة.² 

حكايات الغريب 2025

 – غزة، فلسطين المحتلّة


الرقم الأول – 

-1-

عبود 


في الشهور الأولى من الحرب، وبعد قنص قوات الاحتلال لعددٍ كبيرٍ من الصحفيين، بدأت صحافةُ المواطن تنتشر على نطاقٍ واسع. لا أظنّ الغرض منها تغطيةَ الأحداث في "منطقة نزاع" (تلك اللغةُ البغيضة التي تسردُ بها منصّاتُ الأخبار مآسينا الحياتية) ولكن الغرض منها التعبيرُ عن حجم الفاجعة، عن مشاعرِ أبٍ لا يستطيع ضمَّ أولاده لأنهم سيظنّونه مفارقًا، أو عن تبديلِ كلِّ أنماطِ التعبيرِ الجسديّ عن المشاعر بأنماطٍ إلكترونيةٍ، لعلَّ العالم يوقف كلَّ هذا، لعلَّ عقلنا يدركه، لعلّنا نستجدي عطْفَ غريبٍ آخر لا يشبهنا، لا يتحدث لغتنا، لكن مشاعرنا قد تلاصقه فيغضب أو يشاركنا الألم. 

أتذكّر في الشهر الثالث من الحرب، بعدما اعتدتُ خفّةَ دمِ عبود في نقل الأحداث كأحدِ المواطنينِ الصحفيين. كنتُ أتمنّى أن أعرف أين يسكن، وأين يلتقي بأصدقائه إن ظلّوا أحياء؟ وكيف سينزح إن فُجِّر منزله؟ هل هناك مستشفى قريب؟ بدأتُ أرسم خريطةَ غزة لأفهم ما دُمِّر، ومدى صعوبة النزوح في ظلّ القصف. كنتُ أتساءل عمّا يمكن لأمٍّ أن تحمله معها، لما قد تتّسع حقيبتها؟ لعلها تتّسع لأكثر مما تملؤه قلوبنا من حزنٍ وذعرٍ وخوفٍ من المجهول، وتشَبُّثٍ بقليلٍ من الأمل أن تبقى هي وأسرتها أحياء. في ظلّ كلِّ هذا ظهر عبود (عبود من الشمال، وظلَّ في الشمال طويلًا) ينقل الأخبار. وكثيرًا ما كان يختمُ ببساطةٍ قائلاً: الوضع آيس كوفي ع الآخر.

في نوفمبر 2023، اختفى عبود لعدّةِ أيامٍ (أظنّهم كانوا ثلاثة (إحساسي بالزمان أصبح أكثر زيفًا) بالكاد كنتُ أنام. رنّ هاتفي ليسألني أحدُ الأصدقاء: "هو عبود مختفي؟" بكيتُ مجددًا، وكان البكاءُ هو أسلوبي الوحيد للتعامل مع كلِّ هذا العنف والقلق.

كنتُ في غاية القلق حتى ظهر. في اليوم الذي ارتدى فيه عبود سترةَ الصحافة كنتُ في غاية الفرح، كأنَّ أخي حقّق حلمًا له. وجدتُ نفسي دون تردّد أشارك صورته على صفحتي، ومع الأصدقاء، وفي مكالماتنا جميعًا نتحدث بفخرٍ عن عبود.

إن لم تكن تلك مشاعر صداقةٍ وقُربٍ ووُدّ، فماذا تكون؟ اختفى عبود مجددًا في أكتوبر 2024، وأكاد أجزم أنّ دائرة القلق لم تتغيّر. كان قد قُصف منزله، ونزح إلى مستشفى كمال عدوان شمالَ غزة، حيث خُطف من قِبل جنديٍّ صهيونيٍّ وتعرّضَ للضرب والتعذيب. لكنه عاد مجددًا ليبثَّ مصرحاً أنه لن يتخلّى عن نقل الأخبار وفضح الاحتلال... وان لسه الوضع آيس كوفي ع الآخر." حينها علمني عبود أن النجاة، في زمن الحرب، فعلٌ جماعيٌّ يبدأ ببثٍّ مباشر.



الرقم الثاني

 -2- 

وجهٌ لا أعرف اسمه: طفلٌ يشكرُ سيارةَ الإسعاف على إنقاذه هو وأخاه وقتَ القصف.

الرقم الثاني

 -3- 

وجهٌ لا أعرف اسمه: طفلةٌ على سريرِ مستشفى، تلعنُ الإبادةَ وتُعلن، بمنتهى القوّة، أنّها ستُقاوم. فينشرحُ وجهي. 

الرقم الرابع

-4- 

  بيسان


أتذكّر في الأيام الأولى من الإبادة أنني كنتُ أتابع بيسان لأنها قريبةٌ من مجال العمل النسويّ التوعويّ، فتجمعني بها دوائر مشتركة مع بعض زميلاتي في العمل. كنا نسألها عمّا تحتاج، وعن كيفية إدخال المعونات، وعن مشاعرها. ثم توقفت تلك العلاقة بسبب توقف قدرتنا على إدخال شحنات المعونة بعد سيطرة قوات الاحتلال على الحدود. هنا تغيّر نمط العلاقة: لم أعد أتابع بيسان لأننا نعمل في المجال نفسه، بل لأنني أبحث في عينيها عن جزءٍ منّي لم أعد أجده. فقد أبدو حُرّة في الحركة، لكنني أسيرةُ قلّة حيلتي أمام النظام الدولي. لذا، أنظر إلى بيسان كبطلةٍ في أحلامي (تلك الأنثى القوية جدًا. تكمن قوة بيسان في مثابرتها، وفي مدى اتساقها مع مشاعرها وآرائها ومبادئها.

أتذكّر جيّدًا بعض اللحظات الفارقة في علاقتي مع بيسان: ذلك اليوم الذي قصّت فيه شعرها لعدم قدرتها على الاستحمام. فتحت كاميرا هاتفها لتبثّ لنا عن سوء الأحوال، عن اضطرارها للتجرّد حتى من شعرها الذي تحبّه كثيرًا. كانت تدمع في ذلك اليوم؛ أتذكّر أنني بكيت طويلًا وقلتُ في نفسي: "دموعك غاليةٌ جدًا يا ست البنات، لم تسمعني بيسان أبدًا، لكنّني كنت أعلم أننا نبكي معًا، كلٌّ من وراء شاشته. فقد رثينا سويًّا ذلك الامتيازَ الكامن في قدرتنا كأفرادٍ على اتخاذ قراراتٍ تخصُّ أجسادَنا دون أن نُضطرَّ للمساومةِ على البقاء. عندما قصّت شعرَها، شعرتُ كأنها تقصّ جزءًا من جسدي أنا أيضًا. أصبح جسدُها امتدادًا لجسدي، وصارت معاناتُها جرحًا في جسدي.

أتذكّر أنّني شردتُ وسط يوم العمل، ثم أعادني صوتي المطمئن: "هيطول تاني يا حبيبتي، متخافيش." أدركتُ أن عقلي الباطن غلبَ وعيي، فأخذني إلى حلم يقظةٍ أسافر فيه إلى الغريب لأطمئن عليه وأُطمئنه أنه ليس وحده. كنتُ أرثيها وهي حيّة؛ أرثي فقدانَها لشعرها، لكرامتها، لخصوصيتها. وكأنني أتدرّب على رثائها قبل أن أرثيها ميتة. أعادت بيسان تعريفَ القوةِ والهشاشة بأبسط صورها؛ ففي بثّها اليومي تتأرجح بيسان بين البكاء والغضب والابتسام، وتبدأ بقولها: "أنا بيسان... وما زلت حيّة."

ربما قوتها الحقيقية ليست في عدم البكاء، بل في الاستمرار رغم كلّ ما يحدث حولها. وجود بيسان هو تذكيرٌ بأن البقاء نفسه شكل من أشكال المقاومة.

الرقم الخامس 

-5- 

وجه لا أعرف اسمه

الرقم السادس

-6-

وجهٌ أبكاني، وتمنّيتُ لو عرفتُ اسمه.

الرقم السابع

-7- 

هند 

وجهٌ أسمرُ بشوش، لا أتابعها عن قرب، وكأنها صديقةٌ مقرّبةٌ لأصدقاءَ مقرّبين. العلاقة ما زالت مستمرة؛ فأنا أتابع بثَّها من السيارة. أنشغل حين أرى أن الهالاتِ تحت عينيها ازدادت، فأتساءل: هل ما زالت قادرةً على الوصول إلى الطعام؟

أبتسم حين أرى ابتسامتها، وأحبّ متابعة منشوراتها حين تتحدث إلى زملائها وزميلاتها من الصحفيين. أتذكّر رسالتها لأحد الصحفيين الذين خرجوا من غزة خلال العام الأول من الحرب، تتمنّى له التوفيق وتخبره عن استمرارها في العمل. ومع كل بثٍّ لهند، كنتُ أتيقّن أن البقاء ليس فعلَ صدفة، بل قرارٌ يوميٌّ تُمارسه بإصرار.

الرقم الثامن 

-8- 

أنس


فارقنا أنس، فانفطر قلبي. بكيتُ أيّامًا، ألغينا الاحتفالات، وتجمّعنا لنروي قصصًا عن الشجاعة      والمقاومة      والحبّ      والفقد. بكينا جميعًا وترحّمنا على أنس، كأنّنا أقمنا عزاءً فعليًا، وأخذنا واجب العزاء. أعدنا إنتاج نمطٍ اجتماعيٍّ مرتبطٍ بالقرابة والصِّلة؛ لم يكن هذا مجرّدَ حزن، بل كان مقاومةً لمجتمعٍ رسميٍّ يرفع شعاراتِ الحداد، ثم يسرقُ الموتى مرّتين: مرّةً بالنسيان، ومرّةً بالتشويه. عندما يموت غريبٌ ولا يجد من يندبه، نتحوّل نحن (المشاهدون، المتابعون، الغرباء) إلى عائلةٍ بديلةٍ. نتبادل أدوار القرابة كأنّنا نعيد اختراع الطقوس القديمة في فضاءٍ جديد؛ أحدُنا يصبح الأخ، وأخرى تصير الأخت، وثالثٌ الجارَ الذي يحمل القهوةَ إلى العزاء. 

في تلك اللحظة، ينكمش الفراغ الإلكترونيّ ليصبح حيّزًا نلتقي فيه. اللغة الإ     لكترونية تصير أ     جسادًا تجلسُ إلى جوار بعضها، والشاشةُ تصيرُ غرفةَ جلوس، والتعليقاتُ تصيرُ همساتِ عزاء، والإعجاباتُ تصيرُ أحضانًا دافئةً تشعرني أنّ ما أمرُّ به ليس فرديًّا، وأنّ أحدًا ما يمدّ يده إليَّ أيضًا، مع أنّني لست "الغريبَ" (بأل التعريف)، لكنّنا التقينا في الغُربة ذاتِها، كأنّ الغُربةَ وطنُنا المؤقّت، ومكانُ اللقاء الوحيد الذي لم يُحتَلّ بعد. خلق طقسٌ اجتماعيٌ من لا شيء، لأنّ الطقوسَ هي ما يجعلُ الموتَ محتمَلًا، وهي ما يُحوّلُ الفقدَ من صدمةٍ عابرةٍ إلى حكايةٍ تُورَّث. لكنّ تلك المرّة كان الغريبُ قريبًا رقميًا بما يكفي لأعلم، في داخلي، أنّ علاقتنا تسمحُ لي أن آخذ عزاءه. الغريب هنا لا يموتُ غريبًا؛ يموتُ وقد اكتسبَ عائلةً لم يعرفها قط، لكنها تعرفه أكثرَ من أقربائه. ونعزّي عليه كما نعزّي أنفسنا: بأنّ حياتَه كانت تستحقّ أن تُروى، وأنّ موته كان يستحقّ أن يُندَب. 

الرقم الأخير (في حكاياتي فقط فما زال القصف مستمراً) 

-10- 

صالح


أتذكّر في بداية العام الثاني من الإبادة أن صديقةً لي اتصلت وهي مذعورة: "أنا خايفة على صالح قوي... خايفة بجد يغتالوه!" (كان ذلك بعد اغتيال السنوار). ارتبط صالح في ذهني بتلك الصديقة، وكأنّها أنشأت تلك العلاقة بيني وبينه. اعتدتُ على سماع صوت صالح العذب وهو يُنشد: "سوف نبقى هنا كي يزول الألم... سوف نحيا هنا." في اليوم التالي لإعلان وقف إطلاق النار "البارحة" بعد عامين من الإبادة أطال الله في عمره ليعيش ما يكفي من الوقت لنحبَّه ونتعلّق به قُتل على يد عصابات الاحتلال. هذه القرابةُ الافتراضيةُ الجميلةُ والمؤلمةُ تضعُنا في مواجهةٍ مع الفقدِ الأكثرِ قسوة. 

البارحةُ فقط، فارقنا أحدُ الغرباء، لكن دموعي ما تزالُ تنهمر. فردٌ من عائلتي الافتراضية، عائلةِ المقاومة، رحل. استشهد آخرُ كان يؤمن أننا نستحقُّ الحياة. فارقنا إلى الأبد، قُتل بعد أن نجا من أهوال الإبادة... قُتل. ومات معه جزءٌ منّي، لا يزالُ أننا نستحق الحياة. علمني صالح أن للمقاومة وجوهًا كثيرة؛ وجهٌ ينظر للشمس كل اليوم، وجهٌ يغني، وجهٌ يحنو على طفلة صغيرة، ووجه صادق في نقل الأخبار.  

في حضرة الغرباء: ما بعد الغربة الرقمية

كثيرون هم الغرباء، وكثيرةٌ المواقفُ التي تجمعني بهم. في عينِ الاحتلال، في حالاتِ الحروب وأوقاتِ الإبادة، نحن جميعًا أرقام: أنس = رقم، بيسان = رقم، أنا = رقم، أنتم = رقم. وفي عالمٍ مُرقمنٍ لغتُه الأولى أرقام، صفر وواحد، نحن سلعٌ رقمية: حزنُنا = بيانات، قلقُنا = إعلانات أعلم تمامًا أن حزني يُحلَّل ويُحوَّل إلى بياناتٍ تُباع للإعلانات؛ يُراقَب ويُقاس ويُستثمر، فيصبح سلعةً رقمية في عصر «رأسمالية المراقبة» كما تسميها شوشانا زوبوف. هذا الإدراك يجعل حزني أكثرَ تعقيدًا. أعرف الآن أن الحزن نفسه يمكن التحكم فيه، لا فقط تسليعه. حزني هذا ليس حزني وحدي، إنه حزنٌ مشترك، مُصاغٌ من مشاهدَ نراها جميعًا، ومن سرديةٍ جماعيةٍ عن المقاومة والإنسانية. كما تقول سارة أحمد، عواطفُنا "مبنيةٌ اجتماعيًا". حزني على هذا الغريب هو أيضًا فعلٌ سياسيٌّ؛ رفضٌ لـ “الإبادة الرمزية"، وتأكيدٌ على أن حياة الغريب كانت مهمّة. ليس لي فقط، أنا الأنثى العربية، المصرية، المسلمة بل للإنسانية كلّها، مهمّةٌ لذاك الشخص الذي لا تمسّه الإبادة بشيء، فيواصل التمتع بامتيازاته اليومية بلا اكتراث. 

فكما تُدار الموارد، يُدار الشعور؛ يُصنَّف، يُقاس، ويُحذف. ما يُسمح لي أن أراه أو أشارك به، يُقرَّر سلفًا، وليس لي خيارٌ في ذلك. حين تحجب المنصّات الصور والفيديوهات التي تمسّ الغريب (الذي أهتمّ أنا به) لا تحجبها لأنها "صادمة"، بل لأنها قادرة على الالتصاق، كما تقول سارة أحمد، قادرة على أن تنتقل من جسدٍ إلى جسدٍ، من شاشةٍ إلى أخرى. في اللحظة التي فتحت فيها هند هاتفها لتقول:" لستُ قادرةً على ارتداء سترة الصحافة والمشي بحذرٍ مجددًا"، أطلقت شحنةً من المشاعر استطاعت العبور من الشاشة وإيجاد مكانٍ في قلوب كثيرين ممن شاهدوها، لتصنع جماعةً من الحزانى، الغاضبين. 

هكذا يُمارَس علينا مبدأ الندرة الاصطناعية كما وصفه جايسون هيكل: ليس فقط ندرة الغذاء أو العدالة، بل ندرة الإحساس. يُصنع الحجب كأداةٍ لوقف الحزن الجماعي الذي قد يعبر الحدود، نمطٌ جديد من التسييج. لأن النظام، كي يستمر، يحتاج أن يظلّ الحزن محليًا، لا عابرًا للحدود؛ أن يبقى الألم محصورًا في الجغرافيا نفسها التي أنتجت، والحدود التي أنتجها. أنا على يقينٍ تام أن المشاعر لا تُسيَّج، مهما حاولوا. فهي تتسرّب، تلتصق، وتخلق من جديد خرائطها غير المرئية. في هذا التسرّب، تنكشف هشاشة النظام الذي يخاف من دموعنا، يخاف حتى من أ     ن نفقد الأمل فلا يستطيع معرفة أي شيء مما يجول في خواطرنا. وربما هنا بالضبط يبدأ الرفض. حين ندرك أن الحجب ليس فقط تلاعبًا بالمعلومة، بل اعتداءٌ على قدرتنا على الإحساس.    

يصبح الاستمرار في الحزن نفسه فعلَ مقاومة. أن نحزن علنًا (رغم الحجب) هو أن نعلن وجودنا من جديد في عالمٍ يريد تحويلنا إلى رموزٍ في معادلة. لذلك، أرفض أن أكون صفرًا أو واحدًا في معادلةٍ لا تعترف بإنسانيّتي. علاقتي ببيسان وعبود ليست بيانات، بل هي مقاومةٌ وجدانية. حزني عليهم ليس رصيدًا في بنكِ خوارزمياتٍ لشركاتٍ ملوّثةٍ بدعمها للإبادة، ومُموَّلةٍ بأحزاني وآمالي وغضبي. كنتُ أتمنى أن يكون غضبي محرّكي الوحيد، لكن "غوغل" رأت غير ذلك، رأت في غضبي محركًا جديدًا لتكديس ثروتها ورقمنتي.

لهذا أفكّر كثيرًا في معنى الغربة، وقد صارت حالًا تتجاوز المكان. لسنا غرباء لأننا ابتعدنا عن الوطن، بل لأن الوطن نفسه تفتّت داخلنا. حين صرنا نبحث عن ملجأ، وجدناه في وطنٍ رمزي، في شاشةٍ صغيرةٍ تتيح لنا أن نحزن ونرثي ونحبّ ونغضب مع آخرين لا نعرفهم. كأنّ الغربة لم تَعُد فقدًا للمكان، بل تحوّلًا في معنى الانتماء: صرنا ننتمي إلى الألم نفسه، إلى الحزن المشترك، إلى فعل الرثاء الذي يمنحنا يقينًا بأننا ما زلنا بشرًا.

في هذا العالم المراقَب، أكتب لأخلق مساحةً خارج الخوارزميات؛ أكتب كمن يهمس في أذن الغريب كي لا يسمعنا النظام. أكتب منشورًا لا أروّجه، رسائل ورقية كالتي يُلقيها الاحتلال على أهلِ فلسطين وجنوبِ لبنان ليحذرهم من أنهم على وشك فقدانِ بيتٍ أو أحدِ أفرادِ عائلتهم، أو ببساطة، أنهم على وشك أن يصبحوا غرباء. أتساءل فيها عن الحقوق فأيُّ حقٍّ هذا الذي يُبيح القتل؟ وأيّ شرعيةٍ تلك التي تتغاضى عن الخيانة؟ وأيّ قانونٍ يُسوِّغ انتزاعَ الحقول وتفجيرَ البيوت؟ وأيّ مبدأٍ يرفعُ الاحتلالَ إلى مرتبةِ الحقّ؟ لا أظنّ أننا بعدُ نفهم معنى الحقّ. وأرسل نصًّا لأصدقائنا دون أن أُعلّم الخوارزميات ما الذي نشعر به، كأنّ الكتابة نفسها مقاومة ضد التنبّؤ. فكلّ كلمة تخرج منّا دون أن تُحلَّل هي فعل نجاة. هكذا يتحوّل الرثاء إلى فعل مقاومة؛ حين نرثي الغريب على الشاشة، نحن لا نبكي فقط، نخلق طقسًا جماعيًا ضدّ المحو، ونؤكد أن المشاعر قادرة على عبور الجغرافيا والجسد واللغة.

أتذكّر ما كتبته سارة أحمد عن المشاعر التي تتحرك من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل. تلتصق بالأجساد، تغيّر ترتيبها في العالم، وتعيد تعريف من هو القريب ومن هو البعيد. أرى ذلك حين يخرج حزني مني فيمتدّ إلى جسدٍ آخر عبر شاشةٍ في قارةٍ أخرى، وحين أجدني أقرب إلى شخصٍ أبيض بعيد، اختار أن يحمل هذا الحزن معي، من شخصٍ يشبهني ملامحًا، لكنه أغلق قلبه دون أن تمرّ فيه المشاعر نفسها. كأنّ الغضب صار خريطةً جديدةً للعلاقات، وكأنّ الامتياز لم يَعُد ما تملكه من سلطة، بل ما تسمح لنفسك أن تشعر به من الآخر.

في حديثه عن "عمل الحداد " يقول جاك دريدا، إن المرء لا يُشفى من الفقد، بل يحمله معه أينما ذهب، ويعيد إحياءه في اللغة. واليوم، أظننا نحمل هذا الحداد في الذاكرة الرقمية (كلغة جديدة)؛ نفتح صورهم في منتصف الليل كما لو كنا نزور قبرًا إلكترونيًا، نكتب أسماءهم لئلا تختفي من الخوارزميات. لسنا ندفن موتانا، بل نحملهم في سُحبٍ إلكترونية. نرثهم كبياناتٍ نعيد فتحها في منتصف الليل، نؤدي طقسًا جديدًا من الحداد الرقمي، فيه تتجسّد القدرة المزيفة على الحضور كقدرةٍ حقيقية على البقاء.

لم يعد السؤال: أين نحن؟ بل: كم منّا يعيش الآن داخل شاشة أحدهم؟

أفكّر فيما كتبته شوشانا زوبوف عن الحق في المستقبل عن كيف تحرمنا رأسمالية المراقبة من قدرتنا على أن نحلم لأنفسنا.

لكنّنا ما زلنا نحلم، رغم كل ما يُحجب عنّا. نخلق مستقبلنا في الرثاء، في الكتابة، في الجلسات الصغيرة التي نحكي فيها عن الغرباء كأنهم أقرباؤنا، وفي المسيرات التي تجمع غرباء من دولٍ مختلفة ليلصقهم حزنٌ واحد وغضبٌ واحد. حتى الخوارزميات، مهما حاولت، لا تستطيع أن تحجب هذه العدوى العاطفية.

وحين أسمع ترامب يقول لنتنياهو: "أميركا لا تستطيع أن تعادي العالم من أجل إسرائيل"، أفهم أننا (نحن الذين نحزن علنًا) صرنا العالم الذي يخافونه. فأنا تلك الأنثى الصغيرة التي تنطوي على نفسها داخل عالمٍ ضخمٍ يراقبها، لكنّي أعلم أن استمراري في الغضب مخيفٌ بما يكفي ليكون مقاومة. ولذلك لن أتوقّف.

فحتى تجف دموعي، سأفتقدك أيها الغريب. رثائي لك أصبح طقسًا أؤكد فيه على إنسانيّتي المهدَّدة. سردُ قصتك شهادةٌ      أقدّمها للحياة نفسها. في العصر الرقمي، حيث يمكن أن يُمحى كل شيءٍ بضغطة زر، التذكّر والرثاء هما أشدّ أشكال المقاومة عنادًا. وداعًا أيها الغرباء، لم نلتقِ قط، لكنكم علّمتموني أن القرابةَ اختيار، وأن الإنسان إنسانٌ لأنه يرفض أن يكون رقمًا.

عند سارة أحمد: الحزن فعل مقاومة اجتماعية. عند دريدا: الحزن فعل بقاء لغوي. أما أنا، فأراه فعل بقاءٍ ومقاومةٍ معًا ضد الإبادة والنسيان. 

سلامًا... سنلتقي في الذاكرة


القاهرة، 2025

1:   جمال الغيطاني، حكايات الغريب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992.

2:  جوديث بتلر، الحياة الهشّة: قوى الحداد والعنف، دار فيرسو (Verso)، 2004.

Judith Butler, Precarious Life: The Powers of Mourning and Violence, Verso, 2004.

3:  شوشانا زوبوف، عصر رأسمالية المراقبة: الصراع من أجل مستقبل الإنسان في جبهة القوة الجديدة، دار بابليك أفيرز (PublicAffairs)، 2019.

Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism, PublicAffairs, 2019.

4:  سارة أحمد، السياسات الثقافية للعاطفة، دار روتليدج (Routledge)، 2014.

Sara Ahmed, The Cultural Politics of Emotion, Routledge, 2014.

5:  رفعت العرعير، If I Must Die (قصيدة)، نُشرت في The Guardian، نوفمبر 2023.

Refaat Alareer, If I Must Die, The Guardian, November 2023.

6:  سارة أحمد، السياسات الثقافية للعاطفة، دار روتليدج (Routledge)، 2014.

Sara Ahmed, The Cultural Politics of Emotion, Routledge, 2014.

7:  جاك دريدا، عمل الحداد، منشورات جامعة شيكاغو (University of Chicago Press)، 2001.

Jacques Derrida, The Work of Mourning, University of Chicago Press, 2001.

This Content Isn't Available In English


Share this post