أفكّر في موقعيّتي وخياراتي، وفي مكان ولادتي الذي أجبرني أن أعيش الفقد حتى قبل أن أُولد؛ أن أكون جزءًا من جماعةٍ فقدت ذاتها، أجيالٍ سبقتني في الوجود فقدت كلّ شيء. أن أُولد وسط تاريخٍ طويلٍ من الفقد، يعني أن أمارس نعيًا مستمرًّا، أرثي ما كان ولم أشهده، ما كان يجب أن يكون، وما يمكن أن يكون. وأن أُضطرّ لاتخاذ قراراتٍ بالفقد أيضًا، أن أفقد جزءًا منّي أنا لإنقاذ “أنا” أخرى، وأن أرثي تلك التي قرّرت أن أفقدها مضطرّة.
أفكّر فيها، تلك التي كانت كثيرةَ الكلام وصاخبةَ الصوت حدّ الإزعاج، وهذه الآن التي فقدت القدرة على الفقد، وفقدت لغتها، وأصبح الصمت جزءًا مستغرَبًا منها. داخل دوّامات الصمت الصاخب، يهلع عقلي، يركض وراء الكلمات محاولًا الإمساك بها لإنقاذنا. لكنّ الكلمات تبدو صغيرةً، غير ناضجة، ضعيفةً لا تقوى على الوقوف وحدها. فأصمت، ويُحفَر في أعماقي سكونٌ أكبر، أثقل.
أنظر حولي فأجد كلَّ من أحببتُ يَتضاءل أيضًا، وسط تكشّف بشاعة العالم التي ظننتُ سابقًا أننا عرفناها وحفظناها. ولا أعرف، هل عليّ أن أبدأ برثاء وجودهم المفتقد؟ أم برثاء تلك المفتقدة؟ ثم أسأل نفسي: ماذا يعني فقدٌ ضئيل مقابل هذا الكمّ؟ هل تستحقّ هذه الجروح الاعتناء فعلًا؟ الدفء؟ الاحتواء؟ الاستماع؟ هل الحزن هذا مشروع؟
خلال الأيام الأخيرة الماضية، وكلّ ما حملته من ثِقلٍ وتيه، أحاول أن أُذكّر نفسي بما هو بسيطٌ وهادئ في وسط هذا التعقيد؛ مثل ظهور الغيوم التي تحمل ريحًا خفيفةً باردةً تخبرني بتغيّر الفصل وما يحمله معه من دفء. أو مثل فقرة النوستالجيا اليوميّة، حين أعود إلى ذلك المقهى الذي احتضن كلَّ تلك الوجوه والضحكات والجدّية والبكاء؛ نقطةِ تجمّعنا اليوميّة التي تذمّرنا من برودتها، لكننا لم نعلم أنها ستكون الأكثر دفئًا.
تنقذني هذه الذكريات بقدر إحضارها للدموع، تدفئ قلبي الذي أخاف عليه من عدوى التصلّب. تنقذني تلك الأحضان الماضية، وتلك الوجوهُ التي حملتْ عنّي أكثرَ ممّا حملتُ أنا، وتلك الأصواتُ التي شرعنتْ ألمي في كلّ مرّةٍ ظننتُه فيها تافهًا. أرثي ماضيًا يُعينني على الوجود، على الحاضر.
مَيار
This Content Isn't Available In English