بعد أيامٍ تحلّ الأربعينية يا صديقي... مرّ أكثر من شهرٍ على وفاتك. حزِنّا كثيرًا وبكينا... بكينا لأول مرة، انهار بعضُنا وفقد شغفه بالحياة، وآخرون لا يزالون في حالة صدمة. الحقيقة أنّنا حتى الآن غير مصدّقين. أسير في الشوارع فتخطر على بالي، فأهزّ رأسي يمينًا ويسارًا رافضًا، غير مقتنعٍ برحيلك، ثم أتذكّر الناس حولي فأتمالك... وعلى هذه الحال نعيش!
أتعرف يا صديقي أنّي، لكي أُصبّر نفسي، امتدحتُ الموتَ اللعين؟ قلتُ إنّه «عادل... عادل للغاية، يريح الأخيار من شرّ الدنيا»! كلّ كلام الصبر كاذبٌ وغير مجدٍ، وحدهم والداك، ومن بعدهما المقرّبون، يشعرون بمدى الألم والكسرة والحسرة.
حتى الآن لا أصدق، وأردّد في نفسي: «كيف؟» كلّ الأشياء تذكّرني بك، أغلب المواقف والأماكن. تحضرني دائمًا طريقة كلامك ومشيك وملابسك وتعاملك مع الآخرين؛ عناقك المميّز للمحبّين، وألفاظك النابية والبريئة للمختلفين.
أبلغك يا صديقي أنّ جلسات الأصدقاء لم تنقطع، لكنها ناقصة. حلقتنا غير مكتملة، ولن تكتمل بعد فقدانك وغيابك. أتعرف يا صديقي أنّنا في آخر مرة حاولنا تجنّب الحديث عنك؟ أردنا أن نتجاوز سيرتك وألّا نزيح الرماد عن جمر الحزن، فلم نستطع، لم نتمالك. لم يعد لدينا ما نقوله، تذكّرناك بكلمات بسيطة، وانتهينا بسرعة... مرّت علينا سحابة صمت، والجميع يحاول أن يبدو أقوى من الآخر، لكن الصمت يفضح الحزن.
كلّنا يا صديقي نستنكر حياتنا. حتى أنا ألوم نفسي أحيانًا وأسألها: «ألا تشعرين بالخيانة؟» أعيش بينما أنت تحت التراب، فأجدك أمامي، كما جئتني في أول ليلة بعد الرحيل، تخبرني أن أواصل الحياة مردّدًا: «ما تكبّروش الموضوع». ننجح في الحياة أحيانًا ونفشل أخرى، هكذا — أعتقد — حالُ مقرّبيك!
حاولنا يا عزيزي أن نخفّف عن أمّك وأبيك، ولم ننجح. لا يزالان في حالة ذهولٍ وانهيارٍ وضعف. يمثّل والدك بأنّه رجلٌ مقاوم، لكنه أنقاض إنسان، أمّا والدتك فالصبرُ لها ودعاءُ المحبّين. أمّك وأبوك وثُلّة من الأصدقاء — قد لا أكون واحدًا منهم — فقدوا الحياة، ولن يستردّوها يا صديقي مهما مرّت الأيام.
أخبرك يا صديقي أنّ ملابسك التي كانت بحوزتي ذهبت إلى أسرتك، لكني — وللأمانة — احتفظتُ بأشياء تُذكّرني بك. عندما عدتُ من جنازتك بحثتُ في أشيائك التي تركتَ، فوقعت عيني على بقايا العلاج، أمسكتُ بها وتحسّرت. الأوراق التي كنتَ لا تُعيرها اهتمامًا تفحّصتُها وتنهدت... كلّ الأشياء تُذكّرني بحضورك، طيفُك قائمٌ ولا ينتهي.
أنظر إلى نافذة بيتي وأتذكّرك، لم أكن أفتحها إلا للردّ على نداءاتك. لم ينادِ عليَّ أحدٌ من الشارع غيرك. آخر مرة أطللتُ عليك من النافذة سألتني عمّا أريد من السوبرماركت، وقلتَ إنك ستجلب عشاءً، فأخبرتُك: «اعمل حسابي».
أفتقد كلّ هذه التفاصيل: المقهى الذي كنّا نجلس فيه، المطعم الذي كنّا نشتري منه، حتى الأكشاك التي كنّا نبعثر ثلاجاتها للحصول على زجاجة مياهٍ بدرجة برودةٍ مناسبة. كلّ ذلك لا يزال يحمل طيفك... أحاول تعزية نفسي في رحيلك، فقط بدعائي لك بالرحمة والهناء في عالمك الآخر... عالم الموتى.
دون اسم - مصر
This Content Isn't Available In English