يمتدّ الفقد في حياتنا كطيف، نعرف ملامح بعضه، وبعضه يسكننا دون اسم. في عالمٍ يضيق بالحدود والصراعات يصبح الرثاء ترفًا مؤجّلًا، لكننا نستحقّ أن نرثي. نرثي لنستعيد ما سُلِب منّا، ولنذكّر أنفسنا بأنّ الحياة ليست نقيض الموت، بل مقاومته اليومية، وأنّ كل لحظةٍ من الحبّ والحرية تحمل في طيّاتها تحدّيًا. لا يخصّ الفقد من عاشوا الحرب وحدهم، فهناك حروبٌ صغيرة تدور في داخل كلّ واحدةٍ منّا، بين ما نحن عليه وما أردنا أن نكونه، وبين ما تمنحنا الحياة وما تسلبه في اللحظة ذاتها. تتحكّم الحدود والأنظمة السياسية والاقتصادية في خياراتنا، وتفرض سياسات الدول قيودًا على تحرّكاتنا، وتصنع اللغة الفارق بين ما يمكن أن يُقال وما يُحجَب. كلّ هذه القوى تحفر فينا الخوف والشكّ، وتجعلنا أكثر حرصًا على البقاء على قيد الحياة وأقلّ جرأةً على أن نحبّ بحرية.
أفكّر أحيانًا أنّ النساء وُلدن في حروبٍ لا تُسمّى، حروبٍ لا تترك جثثًا في الشوارع، ولكنّها تُثقِل كاهلهنّ بالخذلان، وتدفن أحلامهنّ وآمالهنّ في مطابخ البيوت أو في صمتٍ طويلٍ بعد جدالٍ غير منصف. هناك، حيث يختلط الإحباط بالحنين، تصبح الرغبة في التحرّك أو الكلام مغامرةً صغيرة، تُجبرهنّ على الابتعاد عن أنفسهنّ للحظةٍ، وعلى إعادة ترتيب حضورهنّ في عالمٍ لا يرحم. البوح هنا لا يعني البكاء على الأطلال، بل أن نكتب تاريخًا موازيًا للحزن، أن نحكي كي لا نُمحى، وأن “أستفرغ” هذه الكلمات كي لا أختنق.
أكتب الآن لأستعيد ذلك الإحساس بالامتلاء. أكتب لأنّ الكتابة ما زالت تُبقي اللغة تنبض. أنا أيضًا فقدت، وإن لم يكن بيتي مهدّمًا ولا سمائي مشتعلة. فقدتُ حبًّا أردت أن أعيشه بحرية، محاولةً أن أكسر قيودًا متغلغلةً فينا منذ صِغرنا، قيودًا فرضها علينا العالم الذي يحدّ من رغباتنا ويصنّفها، ويعلّمنا الخوف من الحبّ ويزرع الشكّ والتردّد حتى في أحلامنا. فقدتُ شعور الألفة حين واجهتُ مع أحبّتي صعوباتٍ لم نستطع تجاوزها، وكأنّ طاقة الحروب وجدت طريقها إلينا لتصنع منّا كائناتٍ أكثر صلابةً وقسوةً وأقلّ قدرةً على الحبّ. فقدتُ الأمان حين سعيتُ لأكون صادقةً مع نفسي ومع من يحيطني، وما زال قلبي يحاول أن ينتصر للحبّ ويذكّرني بأنّ النجاة الحقيقية ليست في التصلّب، بل في ألّا أفقد قدرتي على الحنوّ تجاه نفسي وتجاه من حولي.
حين فقدتُه، لم أفقد قلبًا يحبّ، بل فقدتُ ثقتي في أنّ العالم يمكن أن يحتمل حبًّا لا يُشبِهه. كنتُ أحمل في عينيَّ إيمانًا بأنّنا نستطيع أن نكون أحرارًا دون أن نؤذي أحدًا، وأنّ القسوة ليست شرطًا للحرية، بل إنّ اللين شكلٌ آخر من القوة. بيد أنّ هذا العالم أقسى من أن يحتمل هشاشتنا الجميلة، فالحرية عنده رغبةٌ مريبة، والعاطفة ضعفٌ يُعاقَب. في كلّ مرة أحببت، وجدت نفسي مضطرةً لأن أقول: “أنا لا أرفض الحبّ، بل أرفض شكلَه الملتبس. أرفض أن يكون الحبّ امتلاكًا أو صمتًا أو تضحيةً أحادية الجانب. أريد حبًّا متبادلًا يقبل الاختلاف كجزءٍ من جماله. أنا أحاول... لستُ قويّةً كما تظنّون، أنا فقط أحاول ألّا أنهار.” فقدتُ الإحساس بأنّ الحبّ ممكن دون شرح، وفقدت الثقة بأنّ حرية القلب والجسد لا تحتاج إلى دفاعٍ مستمرّ، وفقدت أحيانًا الإيمان بأنّ كسر القيود ممكن.
كلّ محاولةٍ منّي لكسر القيد كانت تُربكني أكثر، حتى ظننت أنّني أتحرّر لأكتشف أنّني أعيد تشكيل قيودي بلونٍ آخر من الأنوثة والوعي. حين يتشقّق الحبّ، تتشقّق معه اللغة التي كنّا نفهم بها العالم. تصبح الأشياء متعبةً، الشوارع والأسماء والروائح وحتى الذاكرة تُصاب بالارتباك وكأنّها لا تعرف أيّ نسخةٍ منّا يجب أن تحفظ. أحيانًا أظنّ أنّ الفقد ليس النهاية، بل اختلاطُ حياةٍ بأخرى، حياةٌ نغادر فيها أنفسنا القديمة دون أن نعرف كيف نعود، وهو ليس حلقةً أخيرةً للعلاقات، بل تحوّلٌ للصورة التي كنّا نرى بها أنفسنا.
أفكّر كثيرًا في الفقد الجماعي، في الذين فقدوا بيوتًا لا يعرفون كيف يعودون إليها، والذين يعيشون في مدنٍ بلا جدرانٍ آمنةٍ ولا قبورٍ كافية. هؤلاء لا يملكون ترف التأمّل، لكنّهم يعلّموننا معنى البقاء. حين أقرأ أخبار القصف، أشعر أنَّ حزني الصغير يختبئ خجلًا، ثم أفهم أن المقارنة نفسها ظالمة، فالفقد لا يُقاس، والألم لا يعرف تراتبية. هناك دائمًا من يفقد، وكلُّ فقدٍ يخصّ صاحبته بعمقٍ لا يمكن محاكاته. أكتب هنا عن الفقد، وأتذكّر أمهاتٍ فقدن أسماء أولادهنّ في القوائم، وصديقاتٍ يحلمن بحياةٍ عاديةٍ كأنّها معجزة. أقول لنفسي: لا أحد ينجو فعلًا، نحن فقط نتعلّم أشكالًا مختلفةً من العيش مع الخسارة.
أحاول أن أتصوّر النسوية وهي تكتب الفقد، لا كبكاءٍ جماعي، بل كفعل مقاومةٍ ضدّ محو العاطفة. النسوية التي أؤمن بها لا تمجّد الصلابة، بل تُرمّم هشاشتنا وتمنحها حقّ الوجود. الفقد في منظورها ليس ضعفًا، بل ذاكرةٌ حيّةٌ وشهادةٌ على أنّنا أحببنا بما يكفي لنفقد. هي لا تضع الحرب على الهامش، لكنها تقول إنّ الحرب ليست فقط ما يحدث بالسلاح، بل أيضًا ما يحدث حين تُمنَع امرأة من أن تحبّ نفسها كما هي، أو حين تُربّى لتصمت لأنّ صوتها مزعج. تعلّمنا النسوية أن نحمل هذا الوعي معًا، ليست كشعاراتٍ أو مفاهيم، بل كحياةٍ يومية: أن نحبّ رغم القيود، وأن نغفر لأنفسنا ما لا نستطيع تغييره، وأن نكون كاملاتٍ في هشاشتنا، ونحافظ على قوّتنا في مواجهة الفقد المستمرّ، العاطفيّ أو الجماعيّ أو الذي أنتجه الاحتلال وراكمته الحروب.
ربّما تكون الكتابة شكلًا من أشكال النجاة، فما لا نمنحه معنى يتحوّل إلى حجرٍ في صدورنا. تصبح الكتابة هنا أداةً لتفكيك ما تركه الاستعمار فينا من رواسب عميقة: حياةٌ مقسّمة، وقلوبٌ مقيّدة، ورغباتٌ مضبوطة بالحدود، ومستقبلٌ يتحكّم فيه الاقتصاد والسياسة وطرق تفكيرٍ مشوّهة. نستشعر ذلك في حياتنا اليومية من خلال أشياء مرئيةٍ كبطء الحركة، والخوف من أن نحلم، والقلق الدائم من الوحدة ومن عدم الانتماء الكامل. أشعر أحيانًا أنّنا، كنساءٍ ونسويات، نحمل صراعَنا الداخلي مع العالم كمرآةٍ لصراعٍ أكبر. فليس كلّ فقدٍ ظاهرٍ في الأخبار، لكنّ كلَّ ما يحدث خلف الحدود وفي التفاصيل اليومية هو امتدادٌ للصراعات نفسها. علينا أن نكتب عنها كي لا نختفي، وكي لا يصبح الألم مجرّد إحصاء، بل تجربةً حيّةً تُذكّرنا بأنّ الحياة لا تزال ممكنة.
حين أكتب، أُعيد ترتيب الشظايا لا لأُلصقها كما كانت، بل لأفهم شكلها الجديد. الكتابة تُعلّمني أن الفقد لا يُمحى بل يُعاد تأويله، وأنّ العيش بعد الخسارة ليس خيانةً للذين رحلوا أو لما انتهى، بل طريقةٌ للوفاء بما كنتُ أحمل أثره وأمضي. كلّ كلمةٍ نكتبها عن الفقد تُعيد تركيب العالم من جديد، وكلّ رثاءٍ يفتح ثغرةً في جدار القسوة. ربّما لا نوقف الحرب، لكنّنا نمنعها من أن تحتلّ أرواحنا. هذا كلّ ما يمكننا فعله: أن نرثي كي نبقى، وأن نكتب كي نحيا.
نرثي كي لا نصمت، لأنّ الصمت شكلٌ آخر من الفقد، ولأنّ من لم يتكلّم ضاع صوتُه في طبقات الغبار. ففي الرثاء مساحةٌ للتمرّد، كأن نقول للألم إنّنا نراه ولكنّنا لا نركع له. نرثي كي نكسر منطق “الأكبر والأهم” الذي يجعل فقدَنا الشخصيّ يبدو تافهًا. لكن التفاصيل الصغيرة هي ما تصنع الحياة، ككوب القهوة الذي لم يُكمِل صباحه، ورائحة القميص، والرسالة غير المُرسلة، والشجرة التي كانت ظلًّا لصداقةٍ قديمة. لا نهرب من جروحنا حين نرثيها، بل نمنع العالم من أن يُقنعنا بأنّ الجروح الصغيرة لا تُحتسب. الرثاء إذن هو جسرُ التعاطف، هو أن نمدّ حزننا ليلامس أحزان الآخرين دون أن نمحو خصوصية أيٍّ منها. الرثاء يمنحنا طريقَ العودة.
الرثاء الذي نمارسه ليس رفاهيةً بل ضرورة، هو تذكيرٌ يوميٌّ بأنّنا نعيش ونحبّ، وأنّنا نرفض أن تصبح حياتُنا مجرّد امتدادٍ لفقدنا. إذ نُعيد تسمية ما فقدناه كي لا يتحوّل إلى فراغٍ مُبهم. نكتب أسماءَهم وأسماءَنا وأسماءَ الأماكن التي غابت، لأنّ التسمية مقاومةٌ للنسيان. في هذا المعنى يتحوّل الرثاء إلى فعلٍ سياسيّ، أن تبكي علنًا في عالمٍ يريدك بلا تعاطف هو شكلٌ من أشكال العصيان، وأن تكتب عن الحبّ في زمن القوة والقسوة والصلابة هو تحدٍّ للمنطق السائد، وأن تعترف بفقدك في عالمٍ يسخر من العاطفة هو إعلانُ بقاءٍ على قيد الإنسانية.
أكتب مدركةً أنّني لا أرثي شخصًا بعينه، بل أرثي كلَّ تجربةٍ فقدت معناها في العالم الذي يفرض علينا قواعده. أرثي نفسي التي أحبّت بعمقٍ وأدركت حدودَ الحرية المفروضة عليها. هذه ليست مرثيّةً للحبّ وحده ولا للحروب التي تملأ العالم، بل للحياة التي نحاول استعادتها رغم كلّ شيء. نكتبها لا كمن يُودّع، بل كمن يبدأ من جديد. الفقد لا ينتهي، لكنّه يتبدّل، والرثاء لا يُغلق الباب، بل يفتحه على اتساعه لكلّ ما يمكن أن يكون. أرثي كلَّ ما نعيشه من استعمارٍ على حياتنا اليومية وقلوبنا وأفكارنا. أرثي لأُذكّر نفسي — وأنفسنا — أنّنا ما زلنا نعيش ونحبّ ونحلم في عالمٍ يحاول أن يجعل من الفقد قدرًا حتميًّا، فيما نحاول نحن أن نحوّله إلى شكلٍ آخر من الحياة.
بدون أسم - تونس
This Content Isn't Available In English