هذا المساء... أُطالع في قماش الخيمة الممزَّق صورًا واضحةً لوجوههم.
الغيومُ معي، تَرثي أهلي الشهداء، والسماءُ بنجومها الكثيرة، والقمرُ المستدير...
وأتذكّر بيتَنا، بكلِّ سذاجة.
لم يَبقَ من البيت سوى ظلِّه المكسور على الجدار، ومن العائلة سوى أسمائهم التي أستدعيها كمن يقرأ تعويذةَ البقاء.
رحلوا جميعًا في جمعةٍ واحدة، بضغطةِ زرٍّ مباغتة.
لم أودّعهم، كنتُ وحيدًا نازحًا في الجنوب، وهم في الشمال. لقد اعتقلني الجيش من مستشفى الشفاء بينما كنتُ على رأس عملي، وأجبروني على النزوح وحدي إلى الجنوب، فيما بقي قلبي هناك، في الشمال.
وحينما هاجروا، أخذوا قلبي معهم، فلم أودّعهم، ولم ألمسْ برودةَ أيديهم، ولم أجدْ لهم أثرًا سوى الرماد.
أمّي كانت آخرَ الأصواتِ التي تسرّبت إليّ، تبكي خالتي بصوتٍ متعبٍ من الفقد، ولم تكن تدري أنَّ الجدار خلفها كان يتنصّت على اللحظة الأخيرة.
أبي، الذي كان يوقظنا على صلاة الفجر، صار هو الفجرَ نفسه؛ يجيء من مكانٍ لا أراه، فيضيء قلبي بدل السماء.
إخوتي، أولئك الذين كانت ضحكاتُهم تشقّ ليلَ البيت، ما زال صداهم يسكن صدري، أضع رأسي عليه كلَّ مساءٍ كمن يضع رأسه على صدرِ الذاكرة.
لم أعد أملك ما يمكن أن يُرثى، فكلُّ ما فقدتُه صار أكبرَ من الرثاءِ نفسه.
الكرسيُّ الذي جلست عليه أمّي وهي تعجن الخبز صار طقسًا من القداسة، ورائحةُ القهوة التي تبخّرت في الصباح الأخير صارت صلاةً أتنفّسها.
كلُّ شيءٍ من حولي يتحوّل إلى أثر، إلى لغةٍ لا تُقال إلّا همسًا.
في الحرب، الفقدُ لا يأتي وحيدًا، بل يأتي كتاريخٍ كاملٍ يُمحى بضغطةِ صاروخ.
وأنا، الناجي الوحيد من بيتي، أكتب لأحتفظ بآخر ما تبقّى منّي: اللغة.
أكتب كي لا يبتلعهم الغياب، كي أُثبت أنَّهم كانوا هنا، وأنَّ ضوءَهم لم يكن وَهمًا.
ربّما لم أستطع أن أُنقذهم، لكنّي أستطيع أن أخلّدهم في الكلمات، أن أجعلهم يمشون بين السطور كما كانوا يمشون في الحياة.
ففي غزّة، لا يموت الناس مرّةً واحدة؛ يموتون حين يُنسَون.
وأنا أكتب كي لا يحدث ذلك... أكتب لأنَّ الحنين، وحدَه، صار شكلًا آخر من البقاء.
عماد، لا شيء، سوى أنّه يرثي أهلَه الذين ارتقَوا جميعًا في مجزرةٍ أليمة.
عماد منذر محمد أبو نعمة - مدينة غزة، داخل خيمة في مخيم نزوح.
This Content Isn't Available In English